فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[51] لقد وعد الله - ومن أصدق من الله قيلا - أن ينصر رسله الذين حملهم مسؤولية بلاغ وحيه ، و أمرهم بأن يتوكلوا عليه ، و يفوضوا أمورهم إليه ، و هيهات أن يخلف معهم وعده أو يخذلهم بعد أن أمرهم بالتوكل عليه ، أو يتركهم بعد ان فوضوا أمورهم الى حسن تدبيره.

وهذا النصر يمتد الى تابعي الرسل من المؤمنين ، لأنهم جميعا يشتركون في المسؤولية و العاقبة .

[ إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا ]

ولكي لا يزعم البعض أن نصر الله مخصوص بالآخرة فقد أكد أن نصره يمتد من الدنيا الى الآخرة :

[ في الحياة الدنيا ]


و القرآن الكريم كله شاهد على مسيرة النصر ، شروعا من نوح (ع) و انتهاءا بمحمد (ص) و مرورا بسائر النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين ، صلى عليهم جميعا مليك السماء .

وإذا سرنا في الأرض ، و أثرنا ذخائر المدن ، و بحثنا عن بقايا الحضارات البائدة ، وجدنا شواهد التاريخ تدلنا أيضا على تلك الحقيقة .

أما كتب التاريخ فبالرغم من أنها تأثرت بطبيعة المؤلفين لها إلا أن من قرأ فيها الحقائق و ترك التفسيرات يجد بين ثناياها ألف دليل و دليل على تلك الحقيقة .

و بكل المقاييس لا تزال حوادث الدنيا اليومية تشهد امتدادا لحركة الأنبياء ، عبر توسع الديانات السماوية و المزيد من التوجه الى تعاليمها .

بلى . إننا قد نجد مصير بعض الدعاة الشهادة اولا أقل الإعتقال و التهجير ، فأين النصر منهم ؟!

أولم يقتل السبط الشهيد بكربلاء ؟! كما قتل المئات من أنصار الحق بعد استتباب الأمر للأمويين ؟! بلى . ولكن النصر المطلوب ليس دائما انتصار الأشخاص ، بل قد يفدي الشخص نفسه لدينه و قيمه راضيا مسرورا ، وقد عبر أحد الشعراء عن هذه الحقيقة فيما يتصل بالامامالحسين سيد الشهداء (ع) :

إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فياسيوف خذينيوعندما سقط بطل الطف عن جواده مثخنا بالجروح البليغة ، و حوله تناثرت جثث أهل بيته و أصحابه ، وفي الأفق صيحات أطفاله : العطش العطش ، و عويل النساء و الثكالى ، حينذاك جمع حفنة من التراب ، و وضع خده عليها ، و ناجى ربه قائلا : " إلهي رضا برضاك ، لامعبود سواك " بلى . إنه كان يعلم أن السبيل


الوحيد لحمل الرسالة الى القلوب هو استشهاده ، وان قطرة الدم أبلغ أنباء من الكتب و الخطب .

ولا يزال السبط الشهيد عالما يستلهم منه أبناء أمتنا البطولات ، و ينتصرون لدينهم بأنفسهم ، و كأين من مؤمن اعتلى عرش المشانق مطمئنا راضيا لتنتصر قيمه المقدسة ، و كأين من مجاهد آثر الشهادة على الحياة ليعلوا بناء الحق و العدل ، و لتقوض أركان الظلم و الفساد .

و سؤال أخير : كيف ينتصر الرب لرسله و المؤمنين ؟

ليس بالضرورة أن يكون بصورة غيبية ، مما نجدها في طوفان نوح ، و تحول النار لإبراهيم الى برد وسلام ، و عصا موسى ، و إحياء الأموات عند عيسى ، و تأييد رسولنا الأكرم بالملائكة المسومين ، صلى الله عليهم جميعا .

بل قد يكون عبر السنن الجارية في الخليقة ، ذلك أن سنن الله الحاكمة في الكائنات قائمة على أساس الحق ( فقد خلق الله السموات و الأرض بالحق ) و رسالات الله تهدينا الى ذلــك الحق ، و رسل الله و المؤمنون مستقيمون عليه ، و تلتقي أفكارهم و أعمالهم عند نقطةالحق مع حركة الخلائق جميعا ، فلا جرم ينتصرون ، أرأيت لو أخبرت خصمك اللجوج أن الشمس تشرق بعد ساعة وكان حقا انباؤك ، فعند الشروق تنهار مقاومته ، لأنها سنة الله ألا تتأخر الشمس عن شروقها لمجرد أن شخصا لجوجا يجادل في ذلك ، كذلك حين أنبأت رسالات الله أنعاقبة الظالمين الدمار بالرغم من أنهم يجادلون في ذلك ، إلا أنه في ساعة الدمار لا أحد قادر على إنكار الحق ، هكذا سنن الله تجري في الإتجاه الذي تهتدي إليه رسالات الله ولن تجد لسنة الله تبديلا .

و التجلي الأعظم لحقيقة رسالات الله لا يكون إلا عند قيام الساعة ، ذلك لأنالدنيا دار ابتلاء ، و ستبقى فيها فرصة الإنكار أو الجدل لم حقت عليه كلمة الضلال ، فحتى عصا موسى الذي ابتلع حبال السحرة لم يفحم فرعون الجاحد بل قال للسحرة : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر . وكان الانسان أكثر شيء جدلا .

وهكذا ذكرتنا الآية هنا : أن النصر الشامل للرسل يكون عند انتهاء وقت الإمتحان و حلول ساعة الجزاء .

[ و يوم يقوم الأشهاد ]

هنالك الولاية لله و الشهادة لأوليائه ، حيث يرى الناس المقام الكريم و المقام المحمود للرسل و المؤمنين حيث يقومون بالشهادة لهذا فيدخل الجنة وعلى هذا فيدخله الله النار .

[52] أما الظالمون فهم الخاسرون إذ لا تنفعهم الأعذار التي عادة يبررون بها ظلمهم في الدنيا ، كما أنهم يلاحقون بلعنة الله و الطرد عن بركاته و رحماته ، كما أن مستقرهم الأخير يكون النار .

[ يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ][53] لقد نصر الله المؤمنين من بني اسرائيل عندما هيأ لهم قائدا كريما كموسى بن عمران ، و زوده بالتوراة ، فيها هدى يحتوي على جملة القيم و التعاليم المباركة ، و فيها ذكرى و مواعظ لم شاء أن يزداد قربا من ربه و وصولا الى الحقائق التي هي اللباب و الجوهر.

[ ولقد ءاتينا موسى الهدى و أورثنا بني اسرائيل الكتاب ]و يبدو أن الوراثة هنا توحي إلى أمرين :

الأول : إن الكتاب أعظم رأسمال و اكبر مجد ، و كان بمثابة المحور الثابت الذي تدور حوله فاعليات الأمة .

الثاني : إن الكتاب ظل بينهم يرثه الجيل بعد الجيل بينما رحل عنهم قائدهم موسى عليه السلام .

[54] ولم يكن وجود الكتاب بين بني اسرائيل بذاته مفخرة لهم بل الاهتداء به و التذكر بآياته وهذا كان خاصا بأولي الألباب .

[ هدى و ذكرى لأولى الألباب ]

[55] ماذا ينبغي أن يقوم به الرسل و المؤمنون تمهيدا لنصر الله ، بل و ثمنا مدفوعا سلفا لهذه النعمة الكبرى ؟

أولا : لابد من الصبر ، و الذي يعني - بمعناه الشامل - الصبر في تنفيذ الأوامر ، و الصبر عند الشدائد ، و بكلمة : السعي و الإجتهاد الآن انتظارا للنتائج المستقبلية ، فمن كان عجولا ، وكان يفتش عن نتائج سريعة ، فإنه لن يبلغ مناه .. و رأسمال الصبر الإيمانبوعد الله ، وأنه حق لا ريب فيه .

[ فاصبر إن وعد الله حق ]

ثانيا : الإستغفار الذي يسقط سدود الذنوب التي تمنع النصر الإلهي ، و يهيء أرضية الفتح ، و يوجه الانسان الى نواقصه الذاتية لكي يصلحها .

[ و استغفر لذنبك ]


ثالثا : التقرب الى الله بالمزيد من التسبيح و التقديس لمقام ربنا الكريم ، حتى لا نظن بربنا ظن السوء فيوسوس الشيطان في قلوبنا الشكوك حول وعده أو نفقد خلال المسيرة شيئا من عزمنا في تأييد دينه .

رابعا : التقرب الى الله بحمده عشيا و بكورا ، ذلك أن حمد الله يجعلنا نتبصر النعم التي اسبغها علينا فتمنع عنا القنوط و النظرة التشاؤمية .

[ و سبح بحمد ربك بالعشي و الإبكار ]

إن حمد الله يؤدي الى تسبيحه ، فمن عرف ان ما تصيبنا من حسنة فمن عنده وما تصيبنا من سيئة فمن عند أنفسنا نزه ربه من النقص و نسبة السيئات إليه سبحانه .

ولعل هذا أحد معاني الباء في قوله " بحمد ربك " فيكون الحمد وسيلة التقديس لربنا العظيم ، وهو أقرب من أن نجعل معنى الباء مجرد المعية ليكون المفهوم سبح و احمد ربك .

[56] ولابد ان نسلم لرب العالمين ، و معنى التسليم له الايمان بآياته و الاحتراز من الجدل فيها ، فمن يجادل فيها إنطلاقا من أهوائه و بغير سلطان مبين و حجة واضحة من عقله فقد استحوذ عليه الشيطان ، و أثار في نفسه الكبر الذي انطوت عليه حيث نازعت رب العزةرداء الإلوهية فأخزاه الله و لعنه و أبعده عن تحقيق مناه .

[ إن الذين يجادلون في ءايات الله ]

المجادل في آيات الله يغلق منافذ قلبه عن النور . أوليست آيات الله في الطبيعة و آياته في الكتاب تجليات لظهوره و أمواج نوره ، فمن نظر اليها نظرة ذاتية دون أنيجعلها وسيلة لبلوغ غيرها أصيب بالعمى . أرأيت الذي ينظر الى المرآة ليعرف طولها و عرضها ، لايمكن أن ينظر الى صورته فيها ، أورأيت الذي يلاحظ في علامات السير طبيعة خطها و طريقة صنعها ، لا ينتفع بإشاراتها ، كذلك عالم الطبيعة الذي يركز نظره في خصائص المادةدون أن يجعلها معبرا الى أسماء الله .

ومن الناس من عقد عزمه على ألا يعرف الحقيقة ، لأن الحقيقة تخالف ما انطوت عليه نفسه من الكبر ، بل إن مجرد التسليم لها يتنافى و حالة الكبر التي في قلبه .

بلى . إنما يجوز الجدال في آيـــات الله إذا كان يملك الانسان الحجة الكافية من الله ، حينئذ يمكن تفسير آية أو تأويلها إنطلاقا من تلك الحجة ، و أخذا بمبدأ النسخ في الآيات كما قال ربنا : " ما ننسخ من آية " .

أما من لا يملك حجة و سلطانا ، فلا يجوز له إلا التسليم .

[ بغير سلطان أتاهم ]

و يبدو أن المراد منه الوحي .

[ إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ]

ماهو ذا الكبر الذي لا يبلغوه ؟ هل هو مطلق الكبر و حب الذات ، وهو النفس ؟ أم أنه أكبر من ذلك ؟

يبدو لي أنه نزعة الألوهية في النفس ، حيث يزعم الانسان أنه قادر على بلوغ درجة الألوهية بإمكاناته المحدودة ، و بعمره القصير .. ولعل سائر الخصال الذميمة تنبع من هذا الإحساس الخاطئ ، و بالرغم من أن الانسان لن يحقق هذه الرغبةفإنه يتعب نفسه من أجلها حتى يكون من الهالكين ، و أبرز مثل لهذه النزعة الفراعنة و الطغاة الذين ينازعون الله رداء العظمة ، وإنما أثار إبليس هذه النزعة في نفس آدم أبي البشر حين أطمعه في الخلود و الملك الدائم .

و كفار قريش وكل الكفار في التاريخ و الحاضر يتبعون هذه النزعة حين يرفضون التسليم للحق ، لأن تسليمهم للحق يفرض عليهم التسليم لقيمه و شرائعه ، ولمن يمثل تلك القيم و ينفذ الشرائع من القيادات الإلهية .

و إن العلــم - أي علم - يفرض على صاحبه مسؤولية ولذلك فهو صعب مستصعب ، لأن احتمال المسؤولية أمر عظيم ، لذلك ترفض النفس البشرية الإنفتاح أمام حقائق العلم إلا بصعوبة بالغة .

ولكي نتخلص من جذر الفساد في النفس وهو هذا الكبر ، علينا أن نستعيذ بالله ، لأن الشيطان غوي مضل مبين ، وهو يتقن أساليب المكر و الخداع ، و يعرف من أين يدخل في قلب هذا البشر الساذج ، ولولا الإستعاذة بالله تضعف النفس أمام وساوسه و أمانيه .

[ فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ]

فهو يسمع أقوال المتكبرين و المجادلين و يبصر أعمالهم ، كما يسمع همسات المناجين ربهم المستعيذين من مكر الشيطان و يبصر أعمالهم .

و نتساءل : كيف نستعيذ بالله ؟

أولا : بالدعاء و المناجاة . و الملاحظ أن المؤمن قد تهجم عليه أمواج البلاء أو صنوف الإغراء فيتردد قليلا في الأمر ، ولكنه بمجرد أن يدعو الله حتى يعطيه القوةالكافية لمقاومة الشيطان .

ثانيا : بمعرفة الله و التقرب اليه بذكره و تسبيحه و الثقة بنصره .

[57] ومن الوسائل الناجحة لمحاربة كبر النفس النظر في عظيم خلق الله و قيامه بذاتـــه ، فهل أنا المتكبر أكبر أم الجبال أم الأرض أم الشمس و القمر ؟! و أساسا : من أنا بالقياس الى هذا الخلق العظيم ؟!

[ لخلق السموات و الأرض أكبر من خلق الناس ]

تعالـوا لننظر الى ملكوت السموات و الأرض ، لنتعرف على الحجم الحقيقي لأنفسنا ، أنا واحد من خمسة آلاف مليون انسان يمشون اليوم فوق كوكبنا ، و الانسان واحد من ألوف الأحياء ، و الأحياء نوع من عشرات الأجناس غير الحية ، ثم كل ما في الأرض لا تحتل إلا مساحةمحدودة منها ، ثم إني لا أعيش عليها إلا سنين معدودات ، لو قيست بالملايين من سني عمر الأرض لكانت كلحظة خاطفة .

ثم الأرض هذه تابع صغير للشمس ، فحجمها أقل من واحد الى مليون من حجم أمها ، وهي لاتزال تعيش على مقربة منها كالرضيع لا يبتعد عن أمه ، ولكن مع ذلك تبلغ المسافة بين كوكبنا و الشمس حوالي ثلاثة و تسعين مليون ميل !!

أما الشمس فهي من عضوات مجرة تحتوي على نحو من مائة مليون شمس .. ولكن هذه المجرة ليست الوحيدة في هذا الفضاء الأرحب ، بل هي واحدة من عشرات الملايين من المجرات اكتشفها البشر ، و كلما اخترعوا أجهزة جديدة اكتشفوا ملايين جديدة من المجرات ، حتى شاعت بين علماء الفضاء فكرة تقول : إن الكون يشهد ولادة مجرات جديدة لا تستطيع أن تلاحقها أجهزتنا المتطورة ..

الله أكبر .. من أنا أمام هذا الحشد من المجرات !


هكذا قال رسولنا الأكرم لزينب العطارة التي زارته في بيته قائلة : إنما جئتك أسألك عن عظمة الله ، فقال : جل جلال الله ، سأحدثك عن بعض ذلك .

ثم قال : وإن هذه الأرض بمن فيها ومن عليها عند التي تحتها كحلقة في فلاة قي (1) ، وهاتان ومن فيهما ومن عليهما عند التي تحتها كحلقة في فلاة قي و الثالثة .. حتــى انتهى الى السابعة ، ثم تلا هذه الآية : " خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن " (2)

و مضى الرسول (ص) يبين طبقات الأرض وما وراءها ، و أن الواحدة منها بالنسبة الى تاليتها كحلقة فلاة واسعة ، الى أن قال عن السماء : " و السماء الدنيا ومن فيها ومن عليها عند التي فوقها كحلقة في فلاة قي ، و هذا و هاتان السماء ان عند الثانية كحلقة فيفلاة قي ، وهذه الثالثة ومن فيهن ومن عليهن عند الرابعة كحلقة في فلاة قي ، حتى أنتهى الى السابعة ، وهذه السبع ومن فيهن ومن عليهم عند البحر المكفوف عن أهل الأرض كحلقة في فلاة قي " (3)و مضى النبي (ص) يبين عظمة خلق الله حيث أن بعض خلقه أعظم من بعض كما الحلقة الصغيرة في الصحراء المترامية ، وهو أقرب مثل لاتساع المنظومات الشمسية و المجرات وما أشبه .

فهل يحق لنا أن نتكبر على ربنا الواسع الذي وسع كرسيه السموات و الأرض أو ندعى مقامه سبحانه ؟!

هذا في أفق المكان و امتداده . أما عن الزمان و امتداده فنحن لسنا أول ما خلق(1) القفر من الأرض .

(2) الطلاق / 12

(3) التوحيد ( للشيخ الصدوق ) ص 276


الله ، ولن نكون آخر خلقه سبحانه ، جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر (ع) أنه قال في تفسير قوله تعالى : " أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد " (1) قال : يا جابر تأويل ذلك ان الله عز وجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، وسكن أهل الجنة الجنة و أهل النار النار ، جدد عالما غير هذا العالم ، و جدد خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه و يوحدونه ، و خلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، و سماء غير هذه السمــــاء تظلهم . لعلك ترى إنما خلق هذا العالم الواحد و ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم، بلى و الله لقد خلق الله ألف ألف عالم و ألف ألف آدم في آخر تلك العوالم و أولئك الآدميين " (2)و أخيرا يرى بعض علماء النفس أن أفضل وسيلة لتربية الانسان أن يعطى له عند بلوغه مبلغ الرجال جهازان يرى بهما عظمة الخلائق ، جهاز ميكروسكوب يرى به عجيب لطف الصنع في خلقة الموجودات المتناهية في الصغر ، و جهاز تلسكوب يرى به عظيم القدرة في خلقة الأجرام المتناهية في الكبر .

[58] هل يستوي من يستوعب هذه الحقائق ببصيرة قلبه فيكون كالبصير ، والذي هو أعمى حتى لو اقتربت منه حقائق الكون جميعا لا يعيها ولا يستوعب دروسها ، و تراه كالشرنقــة لا يزال في تلك الزنزانة الضيقة من نسيج أهوائه و شهواته و وساوس الشيطان .

[ وما يستوي الأعمى و البصير و الذين ءامنوا و عملوا الصالحات ولا المسيء ]أرأيت الذي قضى عمره في جزيرة مهجورة لا يعلم عن الدنيا شيئا ، هل يختلف(1) ق / 15

(2) المصدر / ص 277


بالنتيجة عمن يعيش في غرفة ضيقة في وسط أضخم العواصم قد حجب نفسه عن كل ما حوله ؟ كلا .. كذلك الكافر الذي تحيط به حقائق الكون فلا يستوعبها ، ولا يعيش قلبه في أجوائها ولا تعيها بصيرة نفسه ، بل هو في ظلام جهله و جهالته ، لا يعترف بشيء غير نفسه و أهوائها ،إنه أشد عمى ممن فقد عينيه . أليس كذلك ؟

وكم هو فرق بينه و بين من يعيش عوالم الخلق جميعا في ضميره و وعيه ، و يرى نفسه منها ولابد أن يتناغم سلوكه و سننها ، لأنه يؤمن بربها العظيم ، و يعمل الصالحات التي أمر بها كما أمر سائر العوالم بمثلها .

[ قليلا ما تتذكرون ]

[59] وفي خاتمة الدرس يلخص السياق عبرة الحقائق التي ذكر بها أنها الساعة حيث يتبدل النظام القائم هنا على أساس الإبتلاء ، بنظام يقوم على أساس الشهود و الجزاء .

[ إن الساعة لأتية لاريب فيها ]

وكيف يرتاب في يوم تدل كل حقائق العالم على أنه المنتهى ، فحكمة الله التي تتجلى في كل خليقة صغيرة أو كبيرة تدلنا بوضوح كاف على يوم الجزاء .

[ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ]

فلا تتبع سلوكهم ، و ذرهم يخوضوا في لهوهم ، و انقذ نفسك من المصير الذي ينتهون إليه بكفرهم بها .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس