فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[60] الذين يعيشون في غياهب السجون ، أو في ظلمات الحكم الطاغوتي ، أو في ذل المهاجر بعيدين عن الأهل و الوطن . إن مثل هؤلاء سوف تهجم عليهم سحب اليأس و القنوط ، و يتعرضون لموجات من الشك والإرتياب . أحقا نحن على حق أم هم ؟ فلماذا نراهم المسيطرين علينا، و إلى متى ؟


و أكثر من هؤلاء جميعا ، أولئك الذين يتحصنون بالتقاة ، و يعيشون داخل الكيان الطاغوتي ، حيث يتعرضون لعمليات غسل الدماغ المستمرة ، و ترتبط مصالحهم و رغباتهم و مجمل وشائج حياتهم بعجلة النظام ، وفي ذات الوقت يكتمون إيمانهم ، وتكاد صدورهم تتفجر ضيقا بالأسرار التي يحملونها ، فما الذي ينقذهم من هذا الوضع ، و أي وقود إيماني يمدهم بطاقة الاستمرار و قدرة الإستقامة .. حيث لا صلة بالقيادة ، ولا تفاعل مع المجتمع الإيماني ، ولا جلسات للتعبئة الروحية ، ولا برامج إجتماعية ، ولا مصالح مشتركة مع المؤمنين .


لقد فتح الله لهؤلاء و أولئك جميعا باب الدعاء حيث تتصل قلوبهم بنور ربهم مباشرة ، و ينهلون من نبع التوحيد الأصفى ما يمدهم بالرجاء و الثقة و الإستقامة فقال ربنا :

[ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ]

ماهو هذا الدعاء ؟ قال المفسرون إنه طلب الحاجة من الله ، و تفرد ابن عباس بتفسير آخر حيث قال أنه توحيد الله ، و يبدو لي أن ابن عباس التقط إشارة خفية من الآية حيث أرهف سمعه الى ضمير " ادعوني " و عرف أن المعنى لا تدعو من دوني أحدا ، و حقا ،أن الانسان إما ان يدعو ربه أم يدعو الأنداد .. و الله يأمرنا بدعوته دون الأنداد ، وسوف نرى - إن شاء الله - كيف أن الدعاء أسمى درجات التوحيد .

وعندما وعد ربنا الإستجابة فإن ذلك يكون شرطا ضمنيا بأن يكون الدعاء خالصا لله ، كما قال سبحانه : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " .


ولعل في كلمة " إذا دعاني " إشارة الى هذه الحقيقة ، كما نجد تصريحا بذلك في قوله " فليستجيبوا لي " .

[ إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ]لماذا اعتبر الدعاء عبادة ؟ و أوعد الله على تركه النار ؟ لكي نعرف الإجابة : دعنا نتساءل : ماذا كان محور الخلاف الأصلي بين الموحدين و المشركين ، هل كان في وجود الله ؟ كلا ، هل كان في أسماء الله التي تتعلق حسب المصطلح بذاته سبحانه ؟ كلا ، بل إن المشركين كانوا يعترفون بالله هو الخالق ، وقد قال ربنا : " ولئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم " (1)إنما جوهر الخلاف و محوره الأصيل في كلمة : إن الموحدين يقولون : إن الله هو المهيمن المدبر لأمور الله ، فهو القابض الباسط ، المحيي المميت ، المعز المذل ، وهو الذي يولج الليل في النهار ، و يولج النهار في الليل ، و يدبر الأمر ساعة بساعة و لحظة بلحظة ،بينما كان يرى المشركون عوامل حتمية أخرى غير مشيئة الله في تدبير شؤون الخليقة ، فيتوجهون الى تلك العوامل من دون الله .

على أن المشركين قلوبهم شتى ، و آراؤهم في ذلك مختلفة ، إلا أن أبعدها ضلالة ما قالته اليهود بأن يد الله مغلولة ، إتباعا لفلاسفة اليونان حيث زعموا بأن الله قد فرغ من أمر الخلق و استراح ولا يمكن له التأثير في الخلق أبدا .

و تتناقض رسالات الله عن فلاسفة البشر في هذا المحور ، حيث بشرت البشرية بأن ربهم قريب منهم ، يهيمن على حياتهم ، و يسمع نداءهم ، و يستجيب دعاءهم ، و توضحت هذه البصيرة الإلهية عبر آيات الذكر ، وفي تفسير أهل بيت النبي (ص)(1) الزخرف / 9


لكلمة ( البداء ) التي تعني أن لربنا سبحانه مطلق المشيئة في فعل ما يريد ، والذي تشير إليه الآيات القرآنية :

" إن ربك فعال لما يريد " (1)

" ذو العرش المجيد فعال لما يريد " (2)

" وكان أمر الله مفعولا " (3)

" كذلك الله يفعل ما يشاء " (4)

" له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين " (5)أما الآيات التي تبين أن ربنا استوى على العرش و أنه المدبر و المهيمن و الحاكم وما أشبه مما تشير الى هذه الحقيقة بصورة ما فهي كثيرة ، بل هي - في الواقع - المحور الأساس للقرآن كله .

وقد بينت آيات محكمات واقع البداء في عدة سور .. قال الله سبحانه :

" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " (6)" وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان(1) هود / 107

(2) البروج / 15 - 16

(3) الأحزاب / 37

(4) آل عمران / 40

(5) الأعراف / 54

(6) البقرة / 106


ينفق كيف يشاء " (1)

" لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب " (2)و جاء في تفسير أهل البيت لبصيرة البداء في القرآن الكثيــر من الأحاديث الشريفة ، فقد روي عن الإمام الرضا (ع) أنه قال لسليمان المروزي : ما أنكرت من البداء يا سليمان و الله عز وجل يقول : " أولم ير الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا " ، ويقول عز وجل : " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده " و يقول : " بديع السموات و الأرض " و يقول : " يزيد في الخلق ما يشاء " و يقول : " و بدأ خلق الانسان من طين " و يقول عز وجل : " و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم " ، و يقول عز وجل : " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " (3)و جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق (ع) أنه قال في تفسير قول الله عز و جل : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " لم يعنوا بذلك أنه هكذا .. ولكنهم قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص فقال الله جل جلاله تكذيبا لقولهم : " غلت أيديهمو لعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " ألم تسمع الله عز وجل يقول : " يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب " (4)و ذكر الفخر الرازي في تفسير الآية وجوها جاء في الرابع منها : لعله كان فيهم من كان على مذهب الفلسفة ، وهو إن الله تعالى موجب لذاته و إن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نهج واحد ، وإنه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث غير(1) المائدة / 64

(2) الرعد / 38 - 39

(3) موسوعة البحار / ج 4 - ص 95

(4) المصدر / ص 104


الوجوه التي عليها يقع فعبروا عن عدم الإقتدار على التغيير و التبديل بغل اليد .

إن معرفة الله بأنه قادر على كل شيء ، و أنه فعال لما يريد ، و أنه كما أبدع الخلائق بعد ان لم تكن شيئا ، قادر على أن يبدع ما يشاء ، هي المعرفة الحق ، وهي التي تبعث على الثناء عليه و توصيفه بالحمد و الشكر ، و أي حمد أو ثناء لمن لا يقدر على تغيير شيءحسب ما يزعمون .

ولذلك كان الإعتراف بهذه القدرة للرب أي بالبداء أعظم عبادة و أفضل تعظيم .

جاء في الحديث عن زرارة عن أحدهما ( الباقر أو الصادق عليهما السلام ) :

" ما عبد الله بشيء مثل البداء " (1)

وفي حديث آخر عن هشام بن سالم عن الامام الصادق (ع) أنه قال : " ما عظم الله عز وجل بمثل البداء " (2) وقال : " لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا على الكلام فيه " (3)ومن مظاهر البداء الدعاء ، ذلك ان في الدعاء اعترافا بسلطان الله الفعلي و المباشر على الخليقة ، وأنه القادر على أن يصنع ما يشاء فيما خلق ، و أنه المستعان على بــوائق الدهور و نوائب الحياة ، ولذا أضحى الدعاء العبادة الأسمى ، وقال ربنا سبحانه : "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم " .

وقد استعرض السياق القرآني كيف أن الرجال العظام بلغوا الدرجات السامية(1) المصدر / ص 107

(2) المصدر

(3) المصدر / 108


بالدعاء ، شروعا من آدم أبي البشر حيث استغفر ربه ( بالدعاء ) فغفر له ، و آتاه النبوة و الصفوة ، حتى نوح حيث دعا على قومه فأعانه الله عليهم بالطوفان العظيم ، و إلى إبراهيم الذي ما ونى عن الدعاء في كل موقع حتى اتخذه الله خليلا و جعله للناس إماما ، وإلى موسى الذي نصره الله على فرعون بالدعاء ، و كذلك سائر النبيين ، الذين ما فتئوا يدعون ربهم و يستجيب لهم الله بخرق سنن الطبعية ، فمثلا حين يرزق مريم من عنده ، يتذكر كفيلها زكريا حاجة قديمة في نفسه ، فيدعو زكريا ربه و يطلب منه ذرية ، فيرزقه الله يحيى وكانتامرأته عاقرا ، وقد بلغ من الكبر عتيا ..

وهكذا يعرف من خلال حياة الأنبياء مقام العبد من ربه ، وكيف أنه مقام الطلب و الدعاء ، وهو من أبرز ما يستفيده المؤمن من قصص قدواته الصالحة الأنبياء و الأولياء ، وقد جاء في الأثر عن الامام الباقر (ع) في تفسير قوله سبحانه " إن إبراهيم لأواه حليم " قال : " الأواه الدعاء " (1)

و جاء في حديث آخر عن الامام الرضا (ع) أنه كان يقول لأصحابه : ( عليكم بسلاح الأنبياء ، فقيل : وما سلاح الأنبياء ؟ قال : " الدعاء " ) (2)و للدعاء فوائد عاجلة نتذكر معا بعضها :

ألف : إنه أفضل دواء لداء الكبر في النفس البشرية . وإذا عرفنا أن الاستكبار أعظم حجاب بين العبد و ربه ، وهو العقبة الكأداء في سبيل الصلاح و الفلاح ، وهو مصدر أكثر الفواحش و الذنوب ، فسوف نعرف أهمية الدعاء .


(1) موسوعة البحار / ج 93 - ص 293

(2) المصدر / ص 295


وهكذا نجد في السياق القرآني هنا ما يوحي بأن من يستنكف عن الدعاء فقد استكبر عن عبادة ربه ، وأنه سوف يدخل جهنم داخرا ، كما نجد هذه الآية تأتي في سياق معالجة كبر النفس الذي لن تبلغه ، الى جانب سائر طرق العلاج التي سبقت أو تأتي في هذه الآيات .

باء : الدعاء يلهم الأمل و يرفع اليأس ، و يعيد الى القلب حيويته و نشاطه و عنفوانه .

أرأيت أعظم الهزيمة هزيمة القلب ، و أعقد المشاكل إنهيار النفس ؟ بلى . و الدعاء هو الدواء . كيف ؟

إن الداعي يرجو ربه الكبير أرحم الراحمين فكيف يعتريه اليأس ؟ وهل يظمأ من يرد على حياض مترعة ؟ وقد روى عن الإمام الصادق (ع) انه قال : " إن الدعاء يرد القضاء المبرم بعد ما أبرم إبراما ، فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ، و نجاح كل حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء ، فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه " (1)و روي عنه (ع) : " الدعاء كهف الإجابة كما أن السحاب كهف المطر " (2)وقد جاء في حديث - قدسي - مفصل عن النبي (ص) عن جبرئيل عن رب العالمين أنه قال : " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاسألوني الهدى أهدكم ، و كلكم فقير إلا من أغنيته ، فاسألوني الغناء ارزقكم ، و كلكم مذنب إلا من عافيته ، فاسألوني المغفرة أغفر لكم.. الى أن قال ربنا سبحانه : ولو أن أولكم


(1) المصدر / ص 299

(2) المصدر / ص 295


و آخركم ، و حيكم و ميتكم ، و رطبكم و يابسكم ، اجتمعوا فيتمنى كل واحد ما بلغت أمنيته فأعطيته لم يتبين ذلك في ملكي ، كما لو أن أحدكم مر على شفير البحر فغمس فيه إبرة ثم انتزعها (1) ذلك بأني جواد ماجد واجد ، عطائي كلام ، و عداتي كلام ، فإذا أردت شيئا فإنما أقول له : كن فيكون " (2)

جيم : الدعاء يزيد العبد حبا لربه ، و الحب أفضل علاقة تصل قلب الانسان برب العالمين . إنــــه يغمر القلب صفاء و عطاء ، و حبا للناس و حبا للحياة ، و بهجة و سكينة .. كذلك الدين ليس الا الحب ، وما أغلى قيمة الحب إذا كان الحبيب رب السموات و الأرض .


وهل يشعر بوحشة من يعيش بقلبه في حضرة ربه ؟ وهل يحس بالفقر من يجد مليك السموات و الارض ، وهل يجد الذل سبيلا الى قلب جليس جبار السموات و الأرض ؟

ومن أحب ربه سارع الى طاعاته ، بلا تكلف ولا توان ولا حزن ، وكانت الصلاة قرة عينه ، و الزكاة مطية قربه ، و الشهادة غاية مناه ، لأن فيها لقاء ربه . وإن أولئك الذين من الله عليهم بحبه لا يبيعون لحظة مناجاته بملك الدنيا ، لأن في تلك اللحظة وجدان الحقيقة و لذة العمر ، و حلاوة اللقاء بالحبيب .

وهكذا جاء في النصوص أن الله يحب الدعاء و يحب الداعين ، وهل يحب الله أحدا ثم لا يرزقه حبه ، وهو أعظم نعمة ؟!

قال النبي (ص) : " ما من عبد يسلك واديا فيبسط كفيه فيذكر الله و يدعو(1) معناه : إن كل تمنيات العباد ليست عند ملك الله الا بمقدار رأس أبرة بالنسبة الى بحر عظيم .

(2) المصدر / ص 293


إلا ملأ الله ذلك الوادي حسنات . فليعظم ذلك الوادي أو ليصغر " (1)وقال الامام الباقر (ع) : " ما من شيء أحسن الى الله من أن يسأل " (2)وقال الامام الصادق (ع) : " الدعاء سلاح المؤمن ، و عمود الدين ، و نور السموات و الأرض " (3)وقال النبي (ص) : " لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لم يهلك مع الدعاء أحد ، وليسأل أحدكم ربه حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع ، واسألوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل " (4)وقال (ص) : " إن الله يحب الملحين في الدعاء " (5)دال : الدعاء يوفر نية المؤمن لمتابعة مسيرته نحو الأهداف الصاحلة ، إذ مع طول الأمد يخبو الهدف في نفس صاحبه ، خصوصا إذا واجهته الصعاب ، فيتساءل : لماذا نسعى من أجله ؟ وهل هو يستحق كل هذه التضحيات ؟ فيأتي الدعاء ليكرس الغايات النبيلة في النفس ، خصوصاالأدعية المأثورة التي ترسم لنا خريطة متكاملة للأهداف السامية ، فإذا بنا نزداد تعلقا بها كلما كررناها .

هاء : الدعاء يساهم في تزكية النفس و التقوى ، ذلك أن الانسان ليعلم بفطرته أن دعاءه لا يستجاب إذا كانت بينه وبين ربه حجب الذنوب أو لم يف بعهد الله ، وهكذا ينشط - بالدعاء - لتنفيذ واجباته .


(1) المصدر / ص 292

(2) المصدر

(3) المصدر / ص 294

(4) المصدر / ص 300

(5) المصدر


جاء في الأثر عن الامام الصادق (ع) : " أطب كسبك تستجاب دعوتك ، فإن الرجل يرفع اللقمة الى فيه حراما فما تستجاب له أربعين يوما " (1)و روي عنه أنه قال : قال رسول الله (ص) : " خمسة لا يستجاب لهم : رجل جعل الله بيده طلاق امرأته فهي تؤذيه و عنده ما يعطيها ولم يخل سبيلها ، و رجل أبق مملوكه ثلاث مرات ولم يبعه ، و رجل مر بحائط مائل وهو يقبل إليه ولم يسرع المشي حتى سقط عليه ، و رجل أقرض رجلا مالا فلم يشهد عليه ، و رجل جلس في بيته وقال : اللهم ارزقني ولم يطلب " (2)و العامل المشترك بين هؤلاء جميعا : الإكتفاء بالدعاء عن السعي . (3)و كلمة أخيرة : إن من الناس من يحجم عن الدعاء بمجرد تباطئ الإجابة عنه وهو لا يعلم :

أولا : ان توفيقه للدعاء أعظم مما يطلبه ، وأن أجره عند الله أكبر بكثير من تحقيق رغباته العاجلة ، حتى أن المؤمن يتمنى يوم القيامة أن لو كانت أدعيته جميعا غير مستجابة في الدنيا لما يجد من الثواب العظيم لمن لم يستجب دعاؤه .

ثانيا : قد يدعو الانسان بما يضره فيرحمه الله بعدم استجابته ، و يبدله بما هو خير له .

ثالثا : بعض الدعاء يستدعي تغيير سنن الله التي لا تتبدل ، كأن يدعو المرء توقف الأرض عن الحركة أو ألا يموت أبدا أو أن ينتهي الصراع القائم بين الناس أو(1) المصدر / ص 358

(2) المصدر / ص 356

(3) للتفصيل في الدعاء يمكن مراجعة كتاب المؤلف عن الدعاء .


تتهاوى صروح الظالمين بلا جهاد و تضحيات ، فإذا لم يستجب له يصيبه اليأس .

رابعا : أن تأخير الإستجابة لا يعني التعرض للقنوط إذ أن الله قد جعل لكل شيء قدرا .

ولعل الله سبحانه قد أمر له بالإستجابة ولكن وفق سننه الجارية مما يحتاج الى بعض الوقت ، وجاء في رائعة دعاء الإفتتاح ما يهدينا الى حكمة التباطئ في الإستجابة :

" مدلا عليك فيما قصدت فيه اليك ، فإن أبطأ عنى عتبت بجهلي عليك ، ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي ، لعلمك بعاقبة الأمور ، فلم أر مولى كريما أصبر على عبد لئيم منك علي يا رب "[61] حين تأوي الخلائق الى مساكنها عند هبوط الظلام ، و تستريح الى السكون و الهدوء ، و تعيش خلايا الجسم و الأنسجة في سبات بعيدا عن آثار أشعة الشمس ، تتجلى نعمة الليل التي جعلها الله سكنا ، فلولاه لما تجلت نعمة النهار للانسان حين تستيقظ الطبعية ، نباتها و أحياؤها ، و تلبس الكائنات حلة الضياء حتى لكأن بعضها يبصر بعضا ، إذ سبات الليل و سكونه يمهد لنشاط النهار و حركته و ضيائه .

[ الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه و النهار مبصرا ]إنه الله الذي قدر الليل و النهار بهذه الدقة المتناهية ، فلولا حركة الأرض حول نفسها في مواجهة الشمس لما تعاقب الليل و النهار ، ولو دارت بسرعة أكبر مما عليها لتناثر ما عليها و تفككت و أصبحت كهشيم يذرى في الفضاء الأرحب ، ولو دارت حول نفسها أبطأ مما عليها الآن لانعدمت الحياة بالبرد الشديد حينا و بالحر الشديدحينا ، فسبحان الذي قدر الليل و النهار وما أعجب حال الذي يستريح في كنف الليل و يتقلب في كف النهار ثم يتكبر على ربه ؟!

[ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ]إنهم لا يتذكرون عظيم نعم الله عليهم ليل نهار ، و أنه لا حق لهم فيها ، إنما هي فضل من الله عليهم و منة ، وحق عليهم أن يشكروا ربهم الذي من عليهم بهذا الفضل ، و أوفى الشكر أن يعرفوا بأنه هو المنعم ، فتخشع قلوبهم لذكره ، ثم تسعى جوارحهم الى أوطان تعبده .

[62] أنظر الى ما حولك من الكائنات . أولا ترى في كل شيء آثار قدرة الله ، و لطيف صنعه ، و واسع علمه و خبره ، و بالغ حكمته ، وحسن تدبيره ؟ بلى . كل شيء يسبح بحمد ربنا العظيم ، وكل شيء ينطق بأفصح لغة بأن الله خالقه و مدبر أمره ، فهل خلقت الأشياء بذاتها أم وجدت صدفة وبلا علة ولا حكمة ولا تدبير ؟!

أي عقل يتقبل ذلك أم أي وجدان ؟!

ثم أين ينحرف البشر عن خالق كل شيء ؟! أإله من دونه يتجهون إليه ، أم يتيممون صوب الضلال البعيد ؟!

[ ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو ]

أو يستقيم أن نقول : إن الله خالق كل شيء ، ولكن من يهيمن على الاشياء هو غيره ؟!

[ فأنى تؤفكون ]


و الإفك هو الإنحراف ، وإنما سميت الرياح الهوج بالمؤتفكات لانحرافها ، وانما جاءتها الكلمة بصيغة المجهول للدلالة على أن العوامل الخفية التي تصرف البشر عن صراط الله تجري بخلاف مصالحه حتى لكأنها تجبره على ذلك جبرا .

وانه لو اعتصم الانسان بالله لما قدرت تلك العوامل على إضلاله عن سبيل ربه و رب الكائنات .

[63] وإنما تهيمن عوامل الإفك على البشر ، لإنه لم يسلم لآيات الله بالرغم من وحي الفطرة و دلالة العقل .

[ كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون ]

فليس من سبيل هدى إلا في آيات الله ، فإذا جحدها الانسان فإنه ينحرف بفعل العوامل المضلة .

ولا ريب أن من آيات الله كتاب الله و رسوله ، فمن لم يسلم لهما لم يعتصم بحبل الله ، ومن لم يعتصم بالله تقاذفته أمواج الفتن يمنة و يسارا ، و حرفته عوامل الضلالة الى التيه البعيد .

إن سبيل الله واحد ، وهو الكتاب و الإمام ، فمن جحدهما ألزمه الله التيه الى يوم القيامة .

وإن سبيل الله شرعة العقل المنور بالوحي ، فمن اتبع أهواءه ، و ظن أن لله طرقا بعدد أنفاس الخلائق ، فقد افترى على الله بهتانا عظيما . أرأيت معالم الطريق و إشارات المرور لولم تأبه بها في سيرك ، أي ينتهي بك المطاف ؟ كذلك الذي لا يهتدي بمعالم الحق التيوضعها الله لعباده ، ولم يتبع رسالاته و رسله و أولياءه الذينيدعون الى رسالاته و يجسدون هدى رسله .

و كلمة أخيرة : تبين لنا خواتيم الآيات في هذا السياق درجات المعرفة وهي العلم و التذكر و الايمان و التسليم و الشكر ، كما تبين ما يخالفها من الإفك و الجحود ، وهي في ذات الوقت الذي تعالج حالة الكبر ، تبين الموقف السليم من آيات الله ، وهو موقف الإنفتاحو التسليم ، و تحذر بشدة من الجحود بها الذي ينتهي الى الإنحراف ، وهذا التحذير نجده بصفة مكررة في هذه السورة .

[64] لا ينبغي لمن يتقلب في نعم الله أن يتكبر على ربه أو يجحد بآياته ، فالله هو الذي جعل الارض للانسان قرارا ، فلو كانت جاذبية الأرض أقل أو أكثر إذا لصعبت الحركة فيها أو استحالت ، ولو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام لامتص ثاني أوكسيدالكربون الأوكسجين ، ولما أمكن وجود حياة النبات ، ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الغلاف الجوي كانت تدمر الأرض ولو كانت مادة الأوكسجين بنسبة 50% أو أكثر في الهواء بدلا من 21% فإن جميع المواد القابلة للإحتراقفي العالم كانت عرضة للإشتعال ، لدرجة أن اول شرارة من البرق تصيب شجرة كانت تلهب الغابة نارا ، ولو أن نسبة الأوكسجين كانت أقل من 10 % فإن مدنية الانسان كانت غير موجودة . (1)هذه الأرض التي كيفها الله حسب حاجات الانسان ، أو إن شئت قلت خلق الانسان بحيث يعيش عليها بتناسق دقيق ، إنها قرار الانسان .

أما البناء الذي يرتفع فوقه فهو السماء التي جعلها الله سقفا محفوظا ونحن عن آياتها معرضون ، فلا علم لنا حتى اليوم بجميع أسرارها ، بله المساهمة في صنعها(1) بتصرف عن كتاب العلم يدعو للايمان ، ترجمة محمود صالح الفلكي ، في ظلال القرآن ص 3093إنما هو فضل من الله و منة .

[ الله الذي جعل لكم الأرض قرارا و السماء بنآء ]

ثم خلق الانسان في أحسن صورة و أفضل خلق ، فما من شيء مخلوق من جماد أو نبات أو حيوان إلا و فضل الله الانسان عليه تفضيلا في قوة بدنه و صلابة أعضائه و قدرة احتماله للصعاب ، و زوده بالعقل ، و العلم و سائر الطاقات التي يسخر بها الطبيعة .

لقد زود الانسان بالحياء ليكون وسيلة تعايشه مع نظرائه و التصاقه بقيمه . أوليس يقري الضعيف بالحياء ، و يفي بالوعود بالحياء ، و يقضي الحوائج ، و يتحرى الفضائل ، و ينشد الكمال ، و يتنكب الرذائل و القبائح بفضيلة الحياء التي خص بها دون سائر الخليقة ؟ (1)

و زود بالنطق ليكون وسيلة التفاهم ، و نقل التجارب ، و تواصل المعارف ، و تنامي العلوم المختلفة .

فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكـــلام ، و ذهن يهتدي به للأمور ، لم يكن ليتكلم أبدا ، ولو لم يكن له كف مهيأة ، و أصابع للكتابة ، لم يكن يكتب أبدا ، و اعتبر بذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة . (2)و زود بالعلم عبر العقل و الوحي ، و سخرت به الطبيعة له حتى أصبح سيدا مطاعا بين موجودات الأرض ، هذا الى جانب جمال الصورة ، و حسن الوجه ، و تناغم الأعضاء .


(1) اكتسبنا الأفكــار من كلمات الإمام الصادق (ع) في توحيد المفضل ، من موسوعة البحار / ج 3 - ص 81(2) المصدر / ص 82


[ و صوركم فأحسن صوركم و رزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين ]إن نظرة الى الانسان و إمكاناته و طبائعه و حاجاته ، ثم الى السماء و الأرض و آياتهما و عطائهما ، و الأنظمة الجارية فيهما ، تهدينا الى وحدة الخالق .

وإنه هو ربنا ، و هو رب العالمين ، للتطابق الدقيق و التناغم التام بين تصميم الكائنات و تصوير الانسان الذي خلقت له .

ولا تسعنا عندما نمعن النظر إلا أن نسبح بحمد الله ، و نتذكر أن خيره عظيم و ثابت ، وأنه قد تضاعفت بركته ، و تكامل خلقه ، وحسن تدبيره .

[65] ولكن حاجة الكائنات الى بعضها ، و حاجة الانسان اليها ، دليل عجز الخلائق و محدوديتها ، و بالتالي إنه يكشف وجود نسبة من الموت ومن العدم فيها . فهذا الانسان حي بعشرات الملايين من السنن التي تحيط به و قائم بها ومن دونها فهو ميت ، دعنا نأخذ الطعاممثلا . أويعيش البشر من دونه ؟ و كذلك الهواء لو انعدم انعدمت حياته . أفلا يدلنا على أنه ميت لولا الطعام و الهواء ؟ من ذلك نهتدي الى حاجة كل الطبيعة الى حي يزودها بحاجاتها ، و يدبر أمورها ، وهو الله الحي .

ولكن يتجه البعض الى المخلوقين في قضاء حوائجهم . أفلا يرون أنهم بدورهم محتاجون ؟

[ هو الحي ]

حياته بذاته ، و حياة غيره به ، حياته سبقت الموت ، و وجوده سبق العدم .

[ لا إله إلا هو ]


فلا حياة إلا به ، و إذا لا سلطان إلا سلطانه ، فمن طلب حاجة أو أراد عزا فليجأر إليه خالصا له الدين .

[ فادعوه مخلصين له الدين ]

وسلموا له ، و احمدوه حتى يستجيب لكم .

[ الحمد لله رب العالمين ]

فقد جاء في الحديث المروي عن الامام علي بن الحسين (ع) : " إذا قال أحدكم " لا إله إلا الله " فليقل " الحمد لله رب العالمين " (1)بلى . إذا عرفنا ربنا بأسمائـه الحسنى ، و أخلصنا له النيات ، فإنه يستجيب الدعاء بفضله ، جاء في حديث قال قـــوم للإمـام الصادق (ع) : ندعوه فلا يستجاب لنا ؟ قال : " لأنكم تدعون من لا تعرفونه " (2)[66] لقد تدرج السياق معنا في مراتب الكمال خطوة فخطوة ، فعالج الكبر الذي يحجب صاحبه من الإهتداء بالآيات ، و يبعثه نحو الجدل فيها ، و بسط القول في آيات الله في الآفاق وفي أنفسنا ، ثم أمرنا بالتسليم لله رب العالمين .

وها هو الآن يأمرنا بمواجهة الأنداد ، ذلك أن الإيمان الحق يتبين عندما يحنف صاحبه عن البيئة الفاسدة ، و يتطهر من دنس الشرك و الخضوع لغير الله ، و يكون خالصا دينه لله .. ولن يكون ذلك مع مداهنة المشركين ، بل يجب تحديهم .

[ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ]


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 534

(2) المصدر / ص 535


و رفضي للالهة المزيفة نابع من إيماني الخالص بالله و الذي هداني إليه الله بالأدلة البينة .

[ لما جاءني البينات من ربي و أمرت أن أسلم لرب العالمين ]وإننا نجد تأكيدا مجددا على أن الله هو رب العالمين لتصفية ما تبقى من آثار الكبر في النفس ، وهل يفكر عاقل بمنازعة رب هذه السماوات الواسعة و الأرضين التي نشاهد عن قرب عجزنا عن مواجهة بعض قواها ؟!

[67] و يستعرض السياق تدرج الانسان في مراحل الخلق طورا بعد طور ، وكيف أنه يتقلب في كف السنن الربانية من لدن كان ترابا الى أن خلقه الله من نطفة ثم متقادما من ضعف الى ضعف حتى أضحى بشرا سويا ، ثم ينكسه الله في الخلق بعدئذ حتى يبلغ أرذل العمر ، فهل يجوز لمثل هذا الانسان أن يستكبر أو يتكبر ؟!!

[ هو الذي خلقكم من تراب ]

عندما خلقنا الله جميعا في صورة ذر من تراب الأرض مع أبينا الأكبر آدم أبي البشر .

[ ثم من نطفة ]

أمشاج بين الذكر و الأنثى . ولو قدر لنا أن نرى النطفة هذه لاحتقرناها ، و استصغرنا قدرها ، و لكنها - بالتالي - طور من أطوار خلقنا .

[ ثم من علقة ]

حينما تجتمع الخلايا الى بعضها و تتنامى حتى تبدو في صورة قطعة دم عالقةبالرحم .

[ ثم يخرجكم طفلا ]

ناشئا بحاجة الى حنين الأم و حماية الأب ، و المحافظة من عشرات الأخطار التي تحيط به لضعف بنيته و صغر حجمه .

[ ثم لتبلغوا أشدكم ]

والله وحده يعلم كم هي السنن التي تساهم في بلوغ ذلك الوليد الصغير مرحلة الشباب و الفتوة !

[ ثم لتكونوا شيوخا ]

و تمر بكم ألوف الأخطار التي ينقذكم الله منها حتى يضحى الانسان شيخا ، ولكن البعض يختطفهم ملك الموت قبلئذ ليكونوا عبرة لمن نعي .

[ ومنكم من يتوفى من قبل و لتبلغوا أجلا مسمى ]

فلا يموت الشخص حتى يستوفي أجله في الدنيا . وكم من مريض دفن أو معارض للسلطات القوية أو محارب في ميادين القتال ، يتطاول به العمر متجاوزا مئات العقبات ، بينما يموت الشاب الصحيح الذي يحيط نفسه بكل الموانع ، ليكونا معا دليلا على أن الأجل نعم الحارس .


[ ولعلكم تعقلون ]

و تعلمون أن مراد ربكم من تطورات الحياة أن تتعرفوا عليه ، وأن تسلموا له ، و ألا تشركوا به شيئا .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس