بينات من الآيات [68] كلما قضيت على نسبة الكبر في قلبك كلما اقتربت من حقيقة نفسك و حقائق الكائنات من حولك ، و اقتربت من معرفة ربك و أسمائه الحسنى التي تتجلى في الخلائق ، فهذه الحركة النشيطة من الموت الى الحياة و من الحياة الى الموت التي تقربنا الى كشف جوانب من ذلكاللغز الكبير في الموجودات الذي نسميه بالحياة ، هي أعظم مدرسة لمن طلب الحقيقة .
إننا أقرب شيء الى الحياة ، فكلنا و الحمد لله أحياء نعيش الحياة بكل جوارحنا و جوانحنا و أحاسيسنا و معارفنا ، ولكن - في ذات الوقت - أبعد شي عنها . ماهي الحياة حقا ؟ لعل هناك فروقا نتعرف عليها بين الحي و الميت ، ولكن حقيقة الحياة هل عرفنا عنها شيئا ؟ كلا .. ثم ما هي القدرة المطلقة لربنا العظيم الذي يحيي و يميت ؟ وكيف نتلمس يد الغيب تحرك هذه الكائنات بين الموت و الحياة ؟
عندما تدب أيام الربيع الحياة في أشجار الحديقة القريبة منك ، وفي نباتها ، هل تدبرت فيها لتقترب من لغز الحياة ؟
عندما استقبلت لأول مرة وليدك الجديد وهو يحاول أن يتكيف مع الدنيا(1) اقتباسا من تفسير نمونه / ج 20 - ص 172
الجديدة ، هل فكرت فيمن أحياه كما أحياك من تراب ثم من نطفة ؟
و أكثر من ذلك حين تقف على جثمان فقيد ، هل تصورت الموت بجلاله و رهبته كيف اختطفه من بينكم ، وما الذي جرى عليه ؟
إن بيننا و بين حقائق الخلق حجبا من كبر أنفسنا و غرورها ، تعالوا نخرقها لنعرف جانبا مما حولنا ، و ليعرفنا الرب نفسه .
[ هو الذي يحي و يميت ]
كيف يحيي و يميت ؟ إن قدرته لا تحد فاذا قضى شيئا يكفي أن يلقي بأمره إليه فينفذ فورا .
[ فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ]
ولعل هذه الخاتمة جاءت لبيان عظمة الإحياء و الإماتة ، و أنهما يتحققان بأمر غيبي .
[69] إذا كان موقف الانسان من آيات الحقيقة و شواهدها سلبيا منذ البدء لم يستطع بلوغ المعارف . أرأيت الذي يجحد أصلا بوجود المصباح ، كيف يستضيء بنوره ؟ وهذه هي مشكلة أكثر الناس ، فهم يجادلون في آيات الله ، فلا يفتحون لها أفئدتهم ، بل ولا أبصارهم ، وذلك بسبب حواجز نفسية . ترى كيف ينبغي ثنيهم عن هذا الموقف ؟
الجواب نجده في منهج القرآن عندما يدعو الى الله و عندما يذكرنا بآيات الله . إنه في البدء يعالج هذا الموقف السلبي تجاه الآيات و الذي يسميه بالمجادلة فيها ، ثم يستعرض الآيات بعدئذ .
ففي هذا السياق مثلا نجد القرآن قد بصرنا في الآية (35) بعاقبة الجدال في آيات الله ، وكيف أن الله يطبع على كل قلب متكبر جبار ، و ضرب لنـــا مثلا من تكذيب فرعون ، وكيف زين له سوء عمله ، و صد عن السبيل ، وفي الآية (56) عاد مرة أخرى الى قضية الجدل فيآيات الله ، و بين كيف أنه ينبعث من الكبر الذي لن يبلغه البشر ، ثم نسف أساس هذا الكبر المزيف ببيان عظمة الخلق ، ثم عاد و للمرة الثالثة الى ذات الموضوع في هذه الآية ليبين عاقبة الجدل و جزاءه في الآخرة .
وفي كل مرة نرى السياق بعد ان يحذر من مغبة المجادلة في آيات الله ، يبين طائفة منها لتعمر القلــب - الذي طهر من حجب المعادلة و الموقف السلبي تجاه الآيات - بضياء المعرفة .
[ ألم تر إلى الذين يجادلون في ءايات الله أنى يصرفون ]إلى أي واد ضلال تسوقهم شهواتهم ؟
و يبدو أن الآيات عامة تشمل كل علامة تهدينا الى الحقيقة ، إلا أنها هنا جاءت بمناسبة الحديث عن أدلة النشور و شواهد الجزاء و المسؤوليــة فهي تمهد لذكر تلك الآيــات .
[70] أولئك الذين كذبوا بالكتاب و بما أوحى الله إلى رسله من أحكام ينتظرهم جزاؤهم العادل .
[ الذين كذبوا بالكتاب و بما أرسلنا به رسلنا ]
لعل ذكر الرسل هنا للدلالة على ضرورة التسليم للحق ، و ايضا للشخص الذي يمثله وهو الرسول و الإمام ، ذلك أن كل الوحي ليس مفصلا في الكتاب ، بل منه مايبينه الرسول في سنته ، وأن من كذب رسولا واحدا أو بكتاب واحد فكأنما كذب بالكتاب كله و بالرسل جميعا .
[ فسوف يعلمون ]
و يعرفون أي عذاب شديد يجزون به .
[71] إنهم يسحبون بالإغلال التي في أعناقهم و السلاسل التي قيدوا بها .
[ إذ الأغلال في أعناقهم و السلاسل يسحبون ]
يا للخزي ! هكذا يقيدهم الله بعد ان منحهم في الدنيا الحرية فلم ينتفعوا بها ، بل قيدوا أنفسهم بأغلال الشهوات و سلاسل الأنظمة الشركية .
[72] ولكن .. في أي واد يسحبون ؟
[ في الحميم ثم في النار يسجرون ]
يجرون في ماء حار محموم ثم الى أن يبلغوا النار التي يلقون فيها حتى تلتهب بأجسادهم كما يسجر التنور بالوقود .
[73 - 74] كل ذلك - كما يبدو - يجري عليهم في يوم القيامة ، و قبل أن يقتحموا في نار جهنم يقرأ عليهم الحكم الصادر بحقهم ، و الجرم الذي استحقوا به ذلك الحكم .
[ ثم قيل لهم ما كنتم تشركون من دون الله ]
لقد آمنوا بالطاغوت ، و خضعوا للمجتمع الفاسد ، للمترفين و أدعياء العلمو الدين ، و زعموا أن ركونهم الى تلك الآلهة المزيفة تنجيهم من عذاب الله فسئلوا عنهم .
[ قالوا ضلوا عنا ]
فلا نجد لهم أثرا . بلى . إنهم ضلوا عن الحق في الدنيا اعتمادا عليهم ، ولكنهم اليوم قد ضلوا عنهم .
[ بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا ]
هل إنهم شرعوا في الكذب على ربهم بعد أن وجدوا صرامة الجزاء ، و عنف التبكيت ، و خزي الشماتة ، أم انهم بينوا حقيقة طالما أخفوها في الدنيا ، وهي أن الكافرين لا يعبدون إلا أسماء ، و إنما الآلهة خيالات و أوهام .
[ كذلك يضل الله الكافرين ]
حتى يعبدوا مجرد أوهام ، لأنهم كفروا بآيات الله ، وكذلك يذهب سعيهم في الحياة الدنيا سدى فلا يستفيدون منه في الآخرة .
[75] لقد أذهبوا طيباتهم في الدنيا ، و سعوا نحو اللذات العاجلة دون الأهداف السامية .
[ ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق و بما كنتم تمرحون ]الذي لا يؤمن بالحساب يمتلئ غرورا ، و يسعى في الأرض بالباطل ، دون كوابح أو ضوابط ، و دون أن يأبه بمستقبل حياته أو عاقبة أفعاله ، ولعل هذا هو معنىوإذا فاض غرور المرء طفق يمرح ، و ينشط في اتباع الشهوات ، و يسرف في اللهو و الطرب ، و يبتدع وسائل جديدة لقضاء الوقت (1)[76] و جزاء هذا الانسياق مع رياح الشهوات ، و الترف في الملذات ، هو ذلك الحميم ، و السجر بالنار ، و التبكيت ، و الخلود في جهنم .
[ ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ]
ولماذا لا يدخلون من باب واحد ؟ هل لكثرة عددهم أم لتنوع جرائمهم ، حتى أدخل كل فريق من باب مختلف عن غيره ؟ كل ذلك جائز ، و علينا أن نسعى جاهدين لإغلاق كل أبواب النار من دوننا ، وذلك بتجنب كل طرق الضلال و سبل الفساد .
[ فبئس مثوى المتكبرين ]
وإن جذر سائر المفاسد هو الكبر الذي يتعالى به البشر عن سنن الله ، و جزاء المتكبرين الخلود أبدا في جهنم ، و ساءت مصيرا .
(1) نقل عن اللغة : الفرح إنشراح الصدر بلذة عاجلة ، و المرح شدة الفرح و التوسع فيه ( تفسير نمونه / ج 2 - ص 176 ) .
|