بينات من الآيات [1 - 2] [ حم * عسق ]
راجع تفسير الأحرف المقطعة في السور السابقة . ومما ذكر فيها أن الحروف هذه تشير إلى ذات السورة ، أو أنها إشارة إلى أسماء الله الحسنى . أو أنها تشير الى مفاهيم معينة في السورة و عموما تشير كلمة كذلك الى هذه الأحرف ، و كأنه يقال : هكذا الوحي من خلال هذه الأحرف ، وما تشير إليه من معاني عظيمة .
[3] [ كذلك يوحي إليك و إلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ]مهما اختلفت الأمم الذين تتنزل عليهم الرسالات الإلهية أو تفاوتت سماتالذين يبلغونها فإنها تشترك في منهجها و أهدافها ، كما تلتقي على نقطة مركزية واحدة وهي أنها كلها من عند الله ، وليست من صناعة البشر حتى تتأثر بطبائعه أو ميزات بيئته أو متغيرات حياته .
و الرسالة الإسلامية تأتي ضمن سلسلة متكاملة من الرسالات ، فهي تكمل المسيرة المتصاعدة للبشرية المستجيبة لربها ، وهي كأية سنة إلهية لابد من التصديق بها حينما تتكرر ضمن إطار محدد ، وهي بالتالي مفروضة على الناس ، لأن الذي أوحى بها هو الله العزيز المطلقفي قوته مما يجعل وحيه نافذا شاء الناس أم رفضوا ذلك ، و الحكيم الذي أتقن الرسالة فجعلها مرآة أهداف الحياة و سنن الخليقة .
[4] و يحدثنا ربنا عن نفسه ، في إطار تذكرته برسالته . لماذا ؟ لأن معرفته تعالى هي أساس كل معرفة ، و تسبق في الأولوية الايمان بكل الحقائق . ومن هذا المنهج يستوحي إلامام علي (ع) بصيرته حين يقول :
" أول الدين معرفته ، و كمال معرفته التصديق به ، و كمال التصديق به توحيده ، و كمال توحيده الإخلاص له " (1)فمن دون معرفة الله ، و هيمنته على كل شيء و إحاطته به ، و ملكه للدنيا و الآخرة ، لا يستطيع الانسان أن يؤمن بالوحي الذي هو سنة إلهية خارقة للمألوف عند البشر ، وليس تكاملا يبلغه الانسان بعبقرية .
ولقد أشارت الآية السابقة الى اسمي العزيز الحكيم لرب العالمين ، لأن العزة تعني القدرة الفاعلة أو انعكاس القدرة على الخلق ، وهو يستدعي بعث الرسل ليكونوا مظاهر قدرة الله و هيمنته و عزته و حاكميته ، كما قال ربنا عنهم : " وما أرسلنا من(1) نهج البلاغة / خ 1 - ص 39
رسول إلا ليطاع بإذن الله " . أما الحكمة فهي انعكاس العلم على الفعل ، و لأن ربنا حكيم فهو لا يترك الناس سدى ، و تتجلى عزة الله في الوحي القرآني الذي يهدينا الى أسباب القوة ، كما تتجلى حكمته في مناهجه الرشيدة .
ثم يشير ربنا هنا الى حاكمية الرب في السماوات و الأرض ، مما تستوجب فطريا حاكميته على الناس بالوحي ، فيقول :
[ له ما في السماوات وما في الأرض ]
ومن يشك في رسالة النبي محمد (ص) فهو لم يعرف ربه حقا ، إذ أنه لو عرف عزته و حكمته و مالكيته التي يهيمن بها على الحياة لما شك في وحيه و رسالته ، ذلك أن خالق الكون هو نفسه الذي خلق المنهج الذي يهدينا الى تسخيره في صالحنا .
ولأن السبب في كفر الانسان بالبعث و بكثير من الحقائق الأخرى التي يهتف بها الوحي ، هو عدم إيمانه بقدرة الله حيث يشك في عودة رميم العظام بشرا سويا ، يؤكد القرآن صفات الله الحسنى فور حديثه عن الوحي أو البعث أو .. أو .. ، ذلك أننا إذا آمنا بقدرة الله وحكمته و علمه فسوف نؤمن بكل ما يصدر عنه وما يأمر به إيمانا واعيا ، و نعمل به بلا تكلف ، لأننـا آنئذ نعرف عظمته . أوليس قد أوحى به العظيم ، وإن فيه صلاحنا ؟ أوليس قد أنزله ربنا الحكيم و نزداد يقينا بصدق أنبائه ، مما يبعث فينا العزيمة و الأمل ، و نستعدللدفاع عنه بأموالنا و أنفسنا ، لأنه هبط من عند ربنا القدوس .؟
وهكذا ينبغي أن نسلك الى معرفة الوحي طريق معرفة الخالق حتى نجعله في مقامه الأسمى ، ولا نقيسه بسائر الكلام أبدا ، ولا نرضى بأن يتخذ البعض مصدر تشريعاتهم من غيره ، أو يتحاكموا الى قانون بشري ناقص ، كلا .. إن ربنا مليكالسماوات و الأرض ، و وحيه تجل لحاكميته التامة علينا ، و أي تنكب عن ذلك شقاق و ضلال .
[ وهو العلي العظيم ]
ما معنى العلو ؟ وما معنى العظمة ؟
العلي المرتفع في المكان ، فهل الله موجود في أعلى قمة في الكون ؟ كلا .. تعالى ربنا عن الحلول في مكان ، وهو شاهد حاضر " وهو معكم أينما كنتم " (1) ، و العظيم في اللغة مشتقة من العظم ، و صاحب العظم الغليظ يسمى عظيما ، فهل لله عظم سبحانه و تعالى ؟!
عند تفسير هذه الألفاظ القرآنية ، وهكذا سائر أسماء الله يجب أن نأخذ الغايات و نترك المبادئ ، ذلك ان لكل لفظة مبدأ يكسبها مدلولا حسيا ماديا ، و غاية تعطيها مدلولا معنويا و قدسيا بالنسبة الى الله ، فاذا كانت كلمة العلي تدل على علو المكان حسيا ، فهو يشير الى السيطرة و التمكن ، و ربنا علي بهذا المعنى ، كما أنه عظيم بمعنــى القوة و الشدة و الهيبة . وإنما نستخدم هذه الألفاظ عند الحديث عن الله لسببين :
الأول : عدم وجود ألفاظ بديلة تدلنا على تلك الغايات ، وحيث يريد القرآن تقريب تلك المعاني المطلقة لأذهانناالمحدودة التي عجزت حتى عن الإحاطة بالخلق استخدم هذه الألفاظ .
الثاني : لكي لا ننبهر بمخلوق حاز شيئا من القوة أو الهيبة أو .. أو .. فنعبده من دون الله ، فإذا بنا نخضع لفلان لأنه صاحب ثروة أو قوة أو جمال أو هيبة ، بل(1) سورة الحديد / 4
نتذكر صاحب الملك و العظمة و .. و .. الحقيقي ، وهو الله عز وجل الذي خلقه من بعد العدم فنسلم له أكثر فأكثر ، و بتعبير آخر لابد أن ننطلق في تقييمنا للحياة من الايمان بالله ، لأن كل ما فيها مخلوق له سبحانه ، وإذا اشتمل على شيء من الحسن فهو قبس صغير من أسمائه الحسنى .
[5] [ تكاد السماوات يتفطرن في فوقهن ]
ربما يتصور البشر أن أقوى و أكبر شيء في الكون هو السماوات بعلوها و قصور علمه عنها ، حتى أن علماء الفلك كما أجهدوا أنفسهم في اختراع أنواع المناظر ذات القوة الهائلة اكتشفوا المزيد من الكواكب و المجرات حتى انتهى بعضهم الى النظرية القائلة بتوسع الكون المستمر ..و القرآن هنا يهدينا إلى هذه السماء التي هي أعظم شيء في نظرنا تكاد تتفطر من خشية الله .
ومع ان السماوات جمع مؤنث لغير العاقل ، والذي يناسبها هو كلمة " تتفطر " ، نجد الآية هنا تعبر عنها كما لو كانت من ذوي العقول : " يتفطرن " ذلك للدلالة على أنها في مقام العبودية لله و الخضوع له شأنها شأن سائر العقلاْء ، فهي تخشاه .
وكيف لا تتفطر السماوات إذا تجلى الرب لها أو اخترقها وحي الله ، وهي مشفقة من الساعة ، منتظرة لأمر الله لطويها كطي السجل للكتب ، ولا تزال زجرات ملائكة الله تلاحق الأجرام السابحة فيها ألا تحيد عن أمر ربها قيد شعرة .
أعرفتم ماذا يعني وحي الله ، وماهي عظمة رسالات الله ، وأي مقام كريم ينبغي أن نجعلها فيه ؟
سبحانك اللهم افتق عقولنا بنورك حتى نعرف قدر وحيك ، ولا نخسر الدنيا و الآخرة بالإعراض عنه أو الاستهانة بأحكامه ..
وقال المفسرون : إن تفطر االسماوات بسبب هبوط الوحي عبرها ، كما قال ربنا : " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " .
و قــال بعضهــم : بل بسبب صعود أنباء شرك الناس من خلالها ، كما قال ربنا : " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض و تخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا " .
ويبدو لي أن الأهم من كل ذلك عظمة الله و خشية عقابه ، فهي التي تكاد السماوات يتفطرن منها ، وتسبح بحمده و تعبده ، وإن كنا لا نرى ذلك أو نسمعه .
[ و الملائكة ]
وهم القوى العاقلة التي تشرف على جميع الأجرام السماوية و الأنظمة و السنن الكونية تراهم يخشعون أمام جبروت الله و عزته ، و يقدسونه و ينزهونه عما لا يليق به ، و يتم التسبيح بما أعطاهم الله من نعمة الهداية ومن التوفيق للتسبيح ، ولعل هذا أحد معاني " بحمده " فإن معرفة الله لا تكون إلا بذاته ، وكمال معرفته تنزيهه عن الشريك و الشبيه ، وهو معنى التسبيح الذي لا يبلغه العبد إلا بحمد الله ، أي بما يوجب الحمد من نعم الرب ، و توفيقه ، و يعطي هذا التركيب " بحمده " معنى المقارنة أيضا ، لأنربنا تعالى هو كما جاء في الدعاء :
" يا من هو في شرفه عزيز ، يا من هو في عزه عظيم ، يا من هو في عظمته مجيد ، يا من هو في مجده حميد " (1)فهو في عين علو مقامه و قدسه و مجده و غناه حميد له الحمد كله و المحامد جميعا ، لأنه تعالى شأنه لم يترك الخلق و شأنهم بـل تعهدهم بفواضل نعمائه و سوابغ آلائه ،(1) مفاتيح الجنان / دعاء الجوشن الكبير / ص 91
فكان له الحمد كما كان له المجد .
[ يسبحون بحمد ربهم ]
هذه علاقتهم بالله ، أما علاقتهم بمن في الأرض فهي الإستغفار لهم عند الرب حيث ترى الملائكة أن سكان الأرض لا يقدرون الله حق قدره بما يعصون و يذنبون .
[ و يستغفرون لمن في الأرض ]
إيمانا منهم بسعة رحمة الله .
[ ألآ إن الله هو الغفور الرحيم ]
ولو لم يكن كذلك لما ترك على وجه الأرض من دابة بما عصوا الله ، ولعل الآية تبين حقيقة هامة هي أن الله هو الذي يغفر و يرحم من يشاء ومتى أراد ، و خطأ الإعتقاد بألوهية الملائكة أو أنها أنصاف آلهة ، بينما لا يعدو دورها الإستغفار للمؤمنين عند ربهم الذي يقرر قبول توبة أولئك و شفاعة هؤلاء أولا يقبل حسب مشيئته التي لا يسأل عنها وهم يسألون .
[6] و عجيب أمر البشر . إنهم لا يستفيدون من واسع رحمة الله ، بل يتخذون الشركاء من دونه ، و يزدادون بعدا عنه كلما توالت نعمه عليهم ! و ربنا يتوعد هؤلاء بأنه يكتب كل ما تعمله أيديهم و جوارحهم ليعاقبهم عليه عاجلا أو آجلا .
[ والذين اتخذوا من دونه أولياء ]
يعتقدون أنهم هم الذين يرزقونهم ، و يمنعون عنهم الأخطار ، و يخطئون لأن الله هو الذي يرعاهم و يحفظهم .
[ الله حفيظ عليهم ]
يحفظهم برحمته الواسعة التي تشمل العاصي و المطيع ، و يحفظ عليهم كل ما يصدر منهم ، وهم وحدهم يتحملون مسؤولية أعمالهم .
[ وما أنت علهيم بوكيل ]
فما على الرسول إلا البلاغ .
[7] إنما تتلخص مسؤولية الرسول وكل مصلح في تبليغ رسالته للناس بإيصال صوت الوحي الى أكبر عدد ممكن منهم .
[ وكذلك أوحينآ إليك قرءانا عربيا ]
و هـذا مـن رحمة الله و رأفته أن يبعث للناس نذيرا بالوحي من أجل هدايتهم للحــق .
و نقف قليلا عند لفظة " عربيا " لنتساءل : لماذا يؤكد القرآن في كثير من المواضع على عربيته ؟
و الجواب : إنما يؤكد الله على عربية القرآن ليقيم الحجة على الذين كفروا به حينما جاءهم الرسول يتلوه عليهم ، وذلك ببيان أن كفرهم لم يكن لغموض في الوحي فهو بلغتهم . و تعبير " عربيا " لا يدل على لغة القرآن وحسب بل على وضوحه أيضا ، كما تدل كلمة أعجمي في البلاغة على الغموض .
ثانيا : لأن اللغة الوحيدة التي يمكنها أن تتسع لمعاني القرآن أكثر من غيرها هي اللغة العربية ، بعمقها و مرونتها ، ومن هنا يجب أن نعلم بأن السبيل الأفضللإيصال معاني القرآن لغير العرب ليس ترجمة القرآن ، لأنها تضيق بمعانيها ، وإنما تعليمهم اللغة العربية .
[ لتنذر أم القرى ومن حولها ]
وإنما يختار الله عواصم البلدان محلا لتبليغ الرسالة ، لأنها من الناحية الإعلامية أكثر و أشمل تأثيرا ، حيث تعتبر المركز لسائر الناس، فأي حدث أو حديث يقع فيها يكون خبره أكثر شياعا مما لو وقع في غيرها ، ثم إنها تحتل مركزا سياسيا و إجتماعيا هاما بين القرى الأخرى ، ففتح العاصمة يؤدي في الأغلب الى فتح سائر القرى و المواقع الأخرى ، بالذات إذا كانت كمكة في عهد الرسول (ص) مركزا لتجمع القوى الدينية و السياسية و العسكرية و الإقتصادية ، التي تسيطر عليها آنذاك قريش ، و تتحكم من خلالها في شبه الجزيرة .
و تدل الآية على أن الرسالة الإلهية كانت ذات أمواج متلاحقة ، فقد افتتحت بأمر الرسول بالقراءة : " إقرا باسم ربك الذي خلق " ، ثم أمرته بإنذار الأقربين : " و أنذر عشيرتك الأقربين " ، و توسعت الى قومه - صلى الله عليه وآله - بقوله سبحانه : " وإنه لذكر لك و لقومك " و تواصلت حتى شملت العالمين فقال ربنا سبحانه : " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " .
ومع أن الرسالة كانت منذ البدء عالمية إلا انها كانت واقعية أيضا تسعى نحو العالم عبر موجات متلاحقة بين الناس ، الأقرب فالأقرب ، و أحق الناس بها و بحمل مسؤولياتها الرسول و أهل بيته الذين نزلت في بيوتهم .
[ و تنذر يوم الجمع لاريب فيه ]
وفي الأثناء لابد للرسالي بأن يستوعب الحياة بواقعياتها ، فلا ينتظر من الناس أنيؤمنوا جميعهم برسالته ، فإذا ما كفروا بخع نفسه ، و شكك في جهوده و رسالته ، فذلك من طبيعة البشر ، إنهم بالتالي ينقسمون الى مؤمنين و كافرين .
[ فريق في الجنة ]
وهم الذين يؤمنون بالرسالة ، و يعملون بمضامينها .
[ و فريق في السعير ]
وهم الكافرون و العاصون .
وفي هذه الجملة " فريق في الجنة و فريق في السعير " إشارة الى الخلاف البشري الذي يقسمهم الى خطين : خط الحق ، و خط الباطل .. و سوف تبين الآيات القادمة هذه النقطة ، و تميزها عن الإختلاف في الرؤى و وجهات النظر بين أهل الحق أنفسهم ، والذي يجبألا يبلغ حد الصراع بينهم .
|