فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[23] من العوامل الأساسية التي تؤدي الى الفرقة بين أبناء المجتع ، هو مرض الحرص على الدنيا الذي يعالجه القرآن في هذه السورة الكريمة بطرق شتى .. و منها أنه يعظم في نفوس المؤمنين الآخرة وما فيها من نعم و خلود حتى يسلون عن طعام الدنيا .

و نتساءل : لماذا القرآن الحكيم كلما عالج انحرافا في حياة الإنسان بين حقائق عن الآخرة ؟

يجيب عن ذلك حديث كريم مروي عن الإمام زين العابدين (ع) يعكس العلاقة بين معالجة النفس و بين التذكرة بالآخرة ، فيقول :

" حب الدنيا رأس كل خطيئة "

و بالمقابل يكون استصغار الدينا وتهوينها رمزا لكل فضيلة ، و مدخلا لكل خير .

كما ان طريق السيطرة على الدنيا و الهيمنة عليها وعلى ما فيها من خيرات ، هو الإستهانة بها . إنك مثلا لا تستطيع أن تسيطر على سيارة تخشى منها ، وكذلك إذا خفت من سلطان ظالم فإنك لن تتمكن في القضاء عليه ، فالهيبة قرنت بالخيبة ، و قرن الخوف بالفشل ، وهكذا الدنيا حينما نخشاها ، و ندور في فلكها ، فإننا لن نستطيع السيطرة و الهيمنة عليها .

أما إذا عكسنا الأمر ، و استهنا بالدنيا ، وهوناها في أنفسنا ، و عظمنا في المقابلأنفسنا و أكرمناها ، فآنئذ نستطيع أن نسيطر عليهما من دون إسراف أو طغيان .

[ ذلك الذي يبشر الله عباده الذين ءامنوا و عملوا الصالحات ]يبشرنا الله بفضل كبير ، و بجنات فيها كل ما نريد ، و أكرم به وعدا صادقا ، و فضلا كبيرا ، ولكن هذا الفضل الكبير مقترن بعمل كبير هو المودة في القربى التي جعلت بمثابة أجر على الرسالة ، فقال ربنا :

[قل لآ أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ]

و نتساءل :

1 - ماهو المفهوم من كلمة القربى ؟

2 - لماذا جاء هذا الموضوع في سياق موضوعات الوحدة في القرآن الحكيم ؟

3 - لماذا لم يأمر القرآن بطاعة ذوي القربى بل بمودتهم ؟


أولا : من هم القربى ؟

وقد استفاضت الأحاديث حول هذه الآية و تفسيرها و كيف نزلت ، و بالرغم من أنها تعالج قضية القيادة التي كانت ولا تزال محورا لخلافات المسلمين ، إلا أن تفسير الآية حظى بقدر كبير من الإنفاق بين علماء المسلمين حسب النصوص التالية التي ننقلها من تفسير ( الدرالمنثور في التفسير بالمأثور ) للعلامة السيوطي ، و لأهميتها البالغة نفيض في بيانها مفصلا :

أخرج ابن جرير و ابن حاتم و ابن مردويه من طريق مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " قالت الأنصار : فعلنا و فعلنا ، و كأنهم فخروا ، فقال ابنعباس رضي الله عنهما : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله (ص) فأتاهم في مجالسهم فقال : يا معشر الأنصار ! ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : أفلا تجيبوني ؟ قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك . أولم يكذبوك فصدقناك . أولم يخذلوك فنصرناك ؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله و رسوله ، فنزلت : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " .

و أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند ضعيف من طريق سعيد بن جبير قال : " قالت الأنصار فيما بينهم لولا جمعنا لرسول الله (ص) مالا يبسط يده لا يحول بينه و بينه أحد ، فقالوا : يا رسول الله إنا أردنا أن نجمع لك من أموالنا ، فأنزل الله : "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " فخرجوا مختلفين ، فقالوا : لمن ترون ما قال رسول الله (ص) ؟ فقال بعضهم : إنما قال هذا لنقاتـل عن أهل بيته و ننصرهم ، فأنزل الله : " أم يقولون افترى على الله كذبا ... الى قوله وهو الذي يقبل التوبةعن عباده " فعرض لهم بالتوبة الى قوله : " و يستجيب الذين آمنوا و عملوا الصالحات و يزيدهم من فضله " هم الذين قالوا هذا أن يتوبوا الى الله و يستغفرونه " .

و أخرج أبو نعيم و الديلمي من طريق مجاهد عن ابن عباس رضـي الله عنهما قال : قال رسول الله (ص) :

" لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى أن تحفظوني في أهل بيتي و تودوهم بي "و أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : " قل لا أسألكمعليه أجرا إلا المودة في القربى " قالوا : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم ؟ قال : " علي و فاطمة و ولداها " .

و أخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير إلا المودة في القربى قال : قربى رسول الله (ص) .

و أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال : " لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيرا فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم و استأصلكم ، فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم . قال : أقرأت آلحم ؟ قال : لا . قال : أما قـرأت : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " ؟ قال : فإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم " .

و أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : " ومن يقترف حسنة " قال : المودة لآل محمد (ص) ، و أخرج أحمد و الترمذي و صححه و النسائي و الحاكم عن المطلب بن ربيعة رضي الله عنه قال :" دخل العباس على رسول الله (ص) فقال : إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث فإذا رأونا سكتوا ، فغضب رسول الله (ص) و در عرق بين عينيه ، ثم قال :

" والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله و لقرابتي "و أخرج مسلم و الترمذي و النسائي عن زيد بن أرقم : ان رسول الله (ص) قال :

" أذكركم الله في أهل بيتي "

و أخرج الترمذي و حسنه و ابن الأنباري في المصاحف عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ص) :


" إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، و عترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما "و أخرج الترمذي و حسنه و الطبراني و الحاكم و البيهقي في الشعب عن ابن عباس : قال : قال رسول الله (ص) :

" أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، و أحبوني لحب الله ، و أحبوا أهل بيتي لحبي "و أخرج البخاري عن ابي بكر الصديق رضي الله عنه قال ارقبوا محمد (ص) في أهل بيته ، و أخرج ابن عدي عن ابي سعيد قال : قال رسول الله (ص) :

" من أبغضنا أهل البيت فهو منافق "

و أخرج الطبراني عن الحسن بن علي قال : قال رسول الله (ص) :

" لا يبغضنا أحد ولا يحسدنا أحد إلا ذيد يوم القيامة بسياط من نار "و أخرج أحمد وابن حبات و الحاكم عن أبي سعيد قال : قال رسول لله (ص) :

" و الذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله النار "و أخرج الطبراني و الخطيب من طريق ابن الضحى عن ابن عباس قال : جاء العباس الى رسول الله (ص) فقال : إنك قد تركت فينا ضغائن منذ صنعت الذي صنعت ، فقال النبي (ص) :

" لا يبلغوا الخير أو الايمان حتى يحبوكم "و أخرج الخطيب عن طريق أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : أتى العباس بن عبد المطلب رسول الله (ص) فقال : يا رسول الله إنا لنعرف الضغائن في أناس من قومنا من وقائع أوقعناها ، فقال :

" أما والله إنهم لن يبلغوا خيرا حتى يحبونكم لقرابتي . ترجو سليم شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب ؟! " (1)و يتساءل البعض : كيف طلب رسول الله على رسالته أجرا ، أفلم تكن له أسوة بسائر الأنبياء - عليهم السلام - الذين اتفقت كلمتهم على ألا يطالبوا أممهم بأجر ، قال الله سبحانه على لسان أكثر من نبي : " لا أسألكم عليه من أجر إن إجري إلا على رب العالمين " . (2)

وقد حدى هذا الإعتراض ببعض الرواة الى تغيير التفسير السابق الى تفاسير أخرى ، بعضها بعيدة عن قيم الرسالات الإلهية .

ولكن إذا عرفنا أن الاسلام هو آخر تجل لنور الرسالة ، و أنه كان بحاجة الى قيادة شرعية نابعة من قيمه الربانية ، تحافظ عليه من زيغ المترفين ، و إلحاد الطغاة ، و ضلالة الجاهلين ، وأن الله الذي أحكم تدبيره في خلقه قد اختار لرسالته من يحمل مشعلها من أهلبيت الرسول كما أجتبى من آل إبراهيم و آل يعقوب من يحمل مشعل الرسالة من بعدهما ..

إذا عرفنا كل ذلك فإننا نهتدي الى الحكمة البالغة وراء جعل المودة في القربى أجرا للرسالة ، إذ أن الهدف منها ولاء القيادة الشرعية التي تحمل مشعل الرسالة ، فمن أراد أن يشكر رسول الله على الأذى الكبير الذي يتحمله من أجل تبليغ الرسالة(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور / ج 6 - ص 7

(2) نجد ذات الآية مكررة في سورة الشعراء ، في الآيات : 149 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180 .


حتى قال (ص) :

" ما أوذي نبي مثل ما أوذيت "

فلا شكر افضل من محبة أهل بيته الذين يحملون ذات الرسالة و يبلغونها للناس .. وهكذا يكون أجر الرسالة في مصلحة الناس انفسهم ، و لهذا قال ربنا سبحانه : " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم " .

ولأن البعض لم يستوعبوا هذه الحكمة تكلفوا في تفسير الآية بما لا يتناسب و سياقها ، فقالوا ، لأن نبينا (ص) كان من أوسط قريش نسبا ، وكانت له قرابة في أكثر قبائلها ، فقد سألهم ان يودوه لأجل قرابته معهم ، وقد نقل هذا التفسير عن أبن عباس في الحديث التالي:

" إن رسول الله (ص) كان واسط النسب في قريش ، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه فقال الله : " قل لا أسألكم عليه أجرا " على ما أدعوكم اليه " إلا المودة في القربى " تودوني لقرابتي منكم ، و تحفظوني بها " (1)وعندي أن هذه النصوص لا تصلح تفسيرا للقرآن للأسباب التالية :

1 - إن الآية من محكمات الذكر التي لا تدع شكا في معناها لمن تدبر فيها وفي سياقهــــا من الآيات ، و المحكم لا ريب فيه ، ولا يجوز أن نتحول عنه اعتمادا على الحديث .

2 - إن دعوة الرسول كانت خالصة لله و طاهرة من كل قيمة مادية و عصبية عشائرية فكيف يدعو قومه لاتباعه باسم العصبية ولأنه ينتسب إليهم ، فهل تصلح(1) المصدر / ص 6


لداعية من سائر الدعاة اليوم أن يدعو ابنه الى إتباعه لأنه أبوه مثلا ، أو يدعو عشيرته لقبول الاسلام لانه قريب نسبيا إليهم ، و أكثر الأنبياء كانوا من بني قومهم ، فلماذا لا نجد مثل هذا الكلام من أي واحد منهم ، و إنما نجد الجميع يؤكدون بأنهم لا يطالبون منقومهم أجرا .

3 - إن الجملة " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " حسب تلك النصوص لا تبدو متنــاسقة ، فماهي العلاقة بين أجر الرسالة و بين قبول الدعوة بسبب المودة في القربى ، أليس هذا يشابه كلام من يأمر بالصلاة و يقول : لا أسألكم أجرا إلا أن تصلوا لأني أخوكم ؟!

و لعدم تناسق المعنى نجد الذين يذهبون الى هذا الرأي يحتارون في كيفية ربط معنى الأجر بفكرة قرابة الرسول مع قريش .

4 - و أخيرا إن الأحاديث التي رويت في تفسير الآية بمودة آل بيت الرسول أكثر عددا ، و أقوى سندا ، و أشد تماسكا ، لو قسناها بالروايات الأخرى التي لا تماسك بينها ، إذ أنها مختلفة اختلافا كبيرا ، بينما تفسر الآية بهذا المعنى ، أو بأن الرسول طالبهم بطاعةالله ( علينا أن نبحث إذا عن كيفية استفادة ذلك من كلمة المودة في القربى ) أو فسرها بأن تودوا الله ، و أن تتقربوا إليه بطاعته . (1)و بتفصيل أكثر :

الروايات التي وردت عبر مختلف الفرق الإسلامية حول تفسير هذه الآية بآل البيت تبلغ أكثر من -44- حديثا ، روي زهاء -19- منها عن طريق أهل البيت (ع) وفي كتب شيعتهم (2) و روي -26- حديثا من سائر كتب الحديث .


(1) المصدر .

(2) راجع تفسير نور الثقلين / ج 4 ، ص 570 - 576


بينما يبلغ مجمل الروايات المعارضة لها (6) أحاديث فقط ، وفيها اختلاف كبير ، بل نجد في رواية منها ينسب الى سعيد بن جبير الرأي المشهور المخالف لتلك النصوص .

فهل يجوز ضرب -44- حديثا موحدا في المعنى بـ -6- أحاديث مختلفة فيما بينها أشد الأختلاف ؟ على أن كلمة " القربى " وردت في -15- موضعا من القرآن بمعنى أقارب الفرد ، مما يؤيد ذات المعنى هنا أيضا ، على أن هذه الأحاديث ليست نصوص شرعية ، لأنها لمترو عن رسول الله (ص) ، وإنما هي اجتهادات الجيل الأول من المفسرين ، بينما الطائفة الأولى من النصوص مروية في الأغلب عن شخص رسول الله ، ومن هنا نجد المفسر المعروف الشوكاني يقول في تقرير هذا المعنى : ولكنه يشد من عضد هذا . إنه تفسير مرفوع الى رسول الله (
ص) و إسناده عند أحمد في المسند هكذا : حدثنا حسن بن موسـى حدثنا قزعة بن سويد عن أبن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس : أن النبي (ص) ... فذكره ، و رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة به ، و أخرج ابن المبارك و سعيد بن منصور و عبد بن حميد وابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية و البيهقي في الشعب . (1)و تساءل الإمام الرازي كيف يجوز للرسول أن يطلب الأجر من أمته على تبليغ الرسالة ، أفلا اقتدى نهج أخوته من المرسلين ؟ فأجاب قائلا :

الجواب عنه من وجهين : ( الأول ) : إن هذا من باب قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بها من قراع الدار عين فلولالمعنى أنا لا أطلب منكم إلا هذا ، وهذا في الحقيقة ليس أجرا لأن حصول(1) تفسير فتح القدير / ج 4 - ص 537


المودة بين المسلمين أمر واجب ، قال تعالى : " و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض " وقال (ص) :

" المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا " .

و الآيات و الأخبار في هذا الباب كثيرة ، وإذا كان حصول المودة بين جمهور المسلمين واجبا فحصولها في حق أشرف المسلمين و أكابرهم أولى ، وقوله تعالى : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " تقديره و المودة القربى ليست أجرا ، فرجع الحاصل الى أنه لا أجر البتة ( و الوجه الثاني ) في الجواب : أن هذا استثناء منقطع ، و تم الكلام عند قوله : " قل لا أسألكم عليه أجرا " ثم قال : " إلا المودة في القربى " أي لكن أذكركم قرابتي منكم ، و كأنه في اللفظ أجر وليس بأجر .

و مضى المفسر المعروف قدما في تقرير الجواب وقال : نقل صاحب الكشاف عن النبي (ص) أنه قال :

من مات على حب آل محمد (ص) مات شهيدا ، ألا ومن مات على حب آل محمد (ص) مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حب آل محمد (ص) مات تائبا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر و نكير ،ألا ومن مات على حب آل محمد يزف الى الجنة كما يزف العروس الى بيت زوجها ، الا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان الى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة و الجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا ، ألا ومن ماتعلى بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة " .

هذا هو الذي رواه صاحب الكشاف ، وأنا أقول آل محمد (ص) هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكل من كان أمرهم اليه أشد و أكمل كانوا هم الآل ، ولا شك أن فاطمة و عليا و الحسن و الحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله (ص) أشد التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل ، وأيضا اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم أمته ، فإن حملناه على القرابة فهم الآل ، و ان حملناه على الامة الذين قبلوا دعوته فهم ايضا آل ، فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل ، وأما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل ؟ فمختلف فيه ، و روى صاحب الكشاف : أنه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ، فقال : علي و فاطمة و ابناهما ، فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبي (ص) ، و إذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ، و يدل عليه وجوه : ( الأول ) : قوله تعالى : " إلا المودة في القربى " ، و وجه الإستدلال به ما سبق ، ( الثاني ) : لا شك أن النبي (ص) كان يحب فاطمة عليها السلام ، قال (ص) :

" فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها " .

و ثبت بالنقل المتواتر عن محمد (ص) أنه كان يحب عليا و الحسن و الحسين ، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله لقوله : " و اتبعوه لعلكم تهتدون " و لقوله تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " و لقوله : " قل إن كنتم تحبون اللهفاتبعوني يحببكم الله " و لقوله سبحانه : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " ( الثاني ) أن الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : اللهم صل على محمد وآل محمد ، و ارحم محمد و آل محمد ، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، فكل ذلك يدل على ان حب آل محمد واجب ، وقالالشافعي رضي الله عنه :

يا راكبا قف بالمحصب من منى و اهتف بساكن خيفها و الناهضسحرا إذا فاض الحجيج الى منى فيضا كما نظم الفرات الفائضإن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي (1)ثانيا : مودة القربى في سياق الوحدة :

لماذا أمرنا بمودة القربى في هذا السياق يحدثنا عن نبذ الخلاف ، و التمسك بالوحدة ؟

حين نتدبر في مجمل آيات الذكر نجد سياقها لا يذكرنا بالداء إلا و يشفعه ببيان الدواء ، فإذا كان داء الأختلاف ناشئا من التشريع البشري ، كما قال ربنا : " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله " فإن دواء الإختلاف هو مودة القربى الذين هم امتداد قيادة الرسول ، فافضل الناس أقربهم الى الرسول منهجا و عملا ( وهم أهل بيته ثم العلماء من أمته الأمثل فالأمثل ) وهم البديل الإلهي للشركاء الذين يشرعون بغير إذن الله .

فمن اتبع القيادة الشرعية التي أمر الله باتباعها كان كمن ركب سفينة نوح أمن و نجى ، ومن خالفها فقد تخلف عن السفينة فغرق في طوفان الشرك و الهوى .

و نجد هذا المنهج في قول ربنا سبحانه في سورة آل عمران : " و اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " .

فلابد إذا من حبل الله نعتصم به حتى نوحد صفوفنا ، وهو قيادة الرسل(1) التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي / ج 27 ، ص 165 - 166و أوصيائهم ، ثم الأمثل فالأمثل من شيعتهم و التابعين لنهجهم .

ومن هنا نعرف أن المودة هنا هي ضمان الطاعة ، فلولا حب الله ما تيسرت للعبد طاعته ، ولولا حب الرسول ما سهل على المسلمين اتباعه ، ولولا حب آل الرسول ما تسنى للمؤمنين التمسك بهم ، ذلك لأن الحب هو ذلك الإنسجام النفسي الذي يحدث بين شخصين ، وهو يقتضي الطاعة للحبيب بشوق وبلا تكلف ، يقول الشعر الحكيم :

تعصي الإله و أنت تزعم حبه هذا لعمرك في الفعال بديعلو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعو جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع) :

" وهل الدين إلا الحب " .

و كثيرة آيات الذكر و أحاديث الرسول التي تأمر بطاعة القيادة الشرعية المتمثلة في أهل البيت - عليهم السلام - كقوله تعالى : " و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم " ، و قوله سبحانه : " ولو ردوه الى الله و الرسول لعلمه الذين يستنبطونه منهم " .

وقول الرسول (ص) :

" النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الإختلاف في الدين " (1)(1) تفسير نمونه نقلا عن الحاتم في المستدرك ص (149) حيث عقب عليه هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ( أي البخاري و مسلم ) .


ومثل حديث الثقلين المجمع عليه :

" إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله ، و عترتي أهل بيتي "إلا أن النصوص التي استفاضت بها كتب التفسير و الحديث و التاريخ هي التي تبين فضيلة حب أهل البيت ، لأن الحب أعظم درجة من الطاعة ، فقد تطيع شخصا مكرها ، ولكن إذا أحببته فإن طاعتك له تكون أيسر و أسمى ، ألا ترى كيف أن الله يصف أفضل عباده ( وهم حزبه المفلحون ) بأنهم يحبون الله و يحبهم الله فيقول : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " .

بلى . حب الله أسمى درجات الإيمان ، و حب الرسول و أهل بيته أسمى درجات التسليم للحق و التمسك بحبل الله ، و بالتالي أفضل ضمان للوحدة .


ثالثا : لماذا المودة بالذات ؟

و يستدرجنا السياق الى السؤال الثالث : لماذا أمرنا السياق هنا بالمودة للقربى بينما كلمة الطاعة أكثر صراحة و أقرب الى حسم الخلاف ؟ و لعل الإجابة الصحيحة تلخص في أمرين :

أولا : لأن جذر الإختلاف بين الناس كامن في القلب ، و أعظم أسبابه الحب و البغض ، فالكبر و الحسد و العصبيات القبلية و القومية و السياسية و الأحقاد المتوارثة و الجهالات العقيمة هي وراء أكثر الأختلافات ، واذا لم تزك القلوب من آثارها فإن الخلاف لا يقضىعليه حتى في إطار الأهداف الواحدة و المصالح المشتركة .

ومما يساهم في تصفية جزء كبير من أمراض القلب حب أولياء الله حيث يغمر نوره القلوب فيفيض حتى يشمل طائفة المحبين جميعا .


إن حب الرسول يجعلنا نحب كل تابعيه ، و حب أهل بيته يسري الى محبيهم حتى يصبحوا حزبا إلهيا واحدا ، و يتحابوا في الله ، و يتزاوروا في الله ، و يتعارفوا في سبيل الله .

هكذا شبه الرسول حبهم بسفينة نوح التي وحدت بين راكبيها ، كما حملتهم الى بر الأمان .

إنهم الحبل الذي يشد أزر المتمسكين ببعضهم ، إنهم النجوم التي توحد مسيرة المتهدين بهم .

ولأن طاعة أهل البيت ، و التمسك بالقيادة الشرعية الرائدة ، تقتضي جهاد المشركين ، و مقاومة الطغاة و المترفين ، و تحدي تيار الفساد و الضلال ، وبالتالي تقتضي هذه الطاعة الجهاد و الإيثار و الشهادة ، فقد جعل الله منطلقه الحب الذي به يسهل كل صعب ، بل و يتلذذ الحبيب بما يبذله في سبيل من يحب . ألم تر كيف يصبر المجاهدون في سجون الطغاة على أقسى ألوان التعديب ، ثم يقولون كما قال حبيبهم محمد (ص) :

" إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى "

ألم يأتك نبأ أهل الإيثار في سوح القتال ، كيف استساغوا شراب الموت ، وكان عندهم أشهى من العسل ، لأنهم اتبعوا نهج إمامهم الحسين (ع) الذي قال وهو يعالج سكرات الموت تحت ركام من السيوف و الخناجر و السهام و الحجارة ، وقد اشتد به العطش ، و وتر بأفضل أهل بيت و أبر أصحاب ، قال :

" إلهي رضا برضاك ، لا معبود سواك "

وقالوا على لسانه :


تركت الخلق طرا في هواك و أيتمت العيال لكي أراكفلو قطعتني بالحب إربــــــا لما مال الفؤاد الى سواكثالثا : الطاعة الحقيقية هي لله و أما المودة ففي القربى ، نحن لا نطيع القيادة لذاتها أنى كانت ، إنما نطيعها لأنها امتداد لولاية الله سبحانه و تعالى .

الطاعة ليست إلا لله ولمن أمر الله ، وهذا يتناسب و أجر الرسالة ، ، لأن أجر الرسول هو أن يستمر نهجه ، حيث كان يتطلع نحو بقاء خطه الرسالي في الأمة ، وهذا كان أهم أجر تقدمه الأمة الإسلامية لرسول الله الذي ما ونى لحظة عن تبليغ رسالات ربه ، ولا أدخــــروسعـــا حتــى أمره الله بألا يهلك نفسه حزنا عليهم ، وقال : " لعلك باخع نفسك علــــى آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " وقال : " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " .

و إني أعتقد بأن كثيرا من أبناء الأمة الإسلامية قد أقروا عيني رسول الله (ص) ، فالذين استشهدوا في صفين مع الإمام علي (ع) ، والذين استشهدوا في كربلاء مع الإمام الحسين (ع) ، و الذين دافعوا عن خط الرسالة على امتداد التاريخ و خلال (14) قرنا وحتى اليوم .
. و المعذبون في السجون ، و شهداء الحق ، و المجاهدون في كل حقل ، هم شهود على ما أقول . إنهم قدموا لرسول الله الأجر ، و ليس من الصحيح أن ننظر الى الجانب السلبي من التاريخ ، فليس من المنطقي أن نفتش في الليل عن الظلام فكل العالم ظلام ، ولكن يبهر أبصارنافيه نور القمر ، و يلفت انتباهنا ضياء النجوم .

[ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ]

توجد في هذه الجملة لفتة فنية بالغة اللطف و الدقة تتركز في كلمة " يقترف " ،فهذه الكلمة عادة ما تأتي مقارنة للسيئة و ليس للحسنة ، حتى قالت العرب ( الإعتراف يزيل الإقتراف ) ، فما هو السر في استعمالها هنا ؟

إن الإقتراف معناه السعي المكثف للقيام بشيء صعب ، و أصل الكلمة نزع لحى الأشجار أ والجلد الإضافي من الجسم ، و لعلها استخدمت هنا لأن السياق يهدي الى طاعة أولي القربى و مودتهم وهي حسنة بالغة الصعوبة ، فمن أجل تطبيق هذه الآية الكريمة أريقت دماء ، و أطيحت برؤوس ، فليس كل انسان أهلا لأن يكون من أصحاب المودة .

[ إن الله غفور شكور ]

أي أن الله سوف يقدر هذا العمل البطولي الشجاع ، و يغفر لصاحبه ذنوبه .

و هكذا روي عن الإمام الحسن المجتبى (ع) أنه قال :

" فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت " (1) .

كما روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال :

" إنما نزلت فينا خاصة أهل البيت في علي و فاطمة و الحسن و الحسين و أصحاب الكساء عليهم السلام " (2) .

و روي مثل ذلك عن ابن عباس .

و كلمة أخيرة : لماذا اختار الله أولي القربى لقيادة الأمة ؟ هل لأنهم من صلب الرسول ، وقد أراد ربنا إكرام نبيه العظيم بذلك ، و إيتاء بعض أجره في الدنيا ،(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 573

(2) المصدر / ص 572


ليبقى ذكره العطر فواحا في كل عصر ، ولكي يتحقق بالتالي ما بشر ربنا به الرسول حين قال : إنا أعطيناك الكوثر ، و نهر أعداءه حين قال ، إن شانئك هو الأبتر ، فهذه سلالة الرسول تزين مجالس المسلمين في كل عصر .

بلى . ولكن ليس هذا سبب اختيارهم قادة ، لأنه ليس كل من انتسب الى الرسول (ص) يصلح للإمامة ، إنما كان أشخاص معينون بالصفات و الأمثال اجتباهم الله لإمامة المسلمين ، و أشارت إليهم الآيات ، و ذكرتهم النصوص ، وكانوا هم الأٌقربون الى رسول الله نهجا و سلوكا ، قبل أن يكونوا الأقربين إليه نسبا و صهرا ، وهم علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام ، وحين نستقرأ كتب التاريخ و الحديث لمختلف الفرق الإسلامية نجدها تؤكد بأن أقرب الناس خلقا و خلقا و علما و عملا الى رسول الله (ص) هم أهل بيته الذين نزلت فيهم الآية ، و سماهم الرسول إسما إسما ، كما سبق في النصوص المتقدمة ، وليس كل من انتسب الى رسول الله بنسب الدم و القرابة .

فإذا أكرمنا الصديقة فاطمة الزهراء فليس فقط لأنها بنت رسول الله ( و للبنت كرامتها ) وإنما القيمة المثلى فيها هي أنها الصديقة الكبرى التي جسدت رسالة النبي في حياتها ، وكذلك الإمام علي (ع) ، فنحن لا نكرم العباس عم النبي بقدر ما نكرم ابن عمه علي بن أبي طالب لأنه الأقرب إليه نهجا و سلوكا .

وكذلك أولاد علي عليه السلام ، فله سبعة عشر ولدا نكرم بينهم الإمامين الحسن و الحسين ليس فقط لأنهما سبطي رسول الله و ابني فاطمة الزهراء ، بل لأنهما سيدا شباب أهل الجنة بما قدماه للإسلام من عطاء .. ومن هنا ننطلق الى الحلقة الثانية وهم الأقرب الى خط الرسول (ص) من أصحابه ، و الأقرب الى خط الإمام علي (ع) من أصحابه ، و الأقرب الى خط الحسن و الحسين و فاطمة الزهراء و الأئمةعليهم الصلاة و السلام من أصحابهم ، ثم الأٌقرب الى خطهم في التاريخ ، و من هنا جاء في الحديث المعروف :

" العلماء ورثة الأنبياء " .

من هم العلماء الذين يشير إليهم هذا الحديث ؟ إنهم أولئك الذين يسيرون في خط رسول الله و أهل بيته ، لأن القرآن يقول : " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ، و هذا النبي و الذين آمنوا " فأولى الناس بإبراهيم ليس أبناء إبراهيم ، وإنما هم الذين اتبعوا إبراهيم عليه الصلاة و السلام .

وكذلك أولى الناس بمحمد و آله هم الذين اتبعوهم و اتخذوهم قدوة لهم ، ومن هنا جاء في الحديث المأثور عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) :

" ولايتي لمحمد أحب إلي من ولادتي منه " .

بلى . حين يريد الله ان يجعل رسالته في ذرية طيبة بعضها من بعض ، يختار ذرية الرسول أكرم الخلق عنده ، و أفضلهم لديه ، فيطهرهم من الدنس ، و يذهب عنهم الرجس ، و يصطفيهم لدينه ، كما اصطفى آل إبراهيم و آل عمران شخصا شخصا .

و هكذا اجتبى ربنا أئمة هذه الأمة من آل الرسول (ص) .

[24] كلما ذكرنا ربنا بأمر عظيم نهر المكذبين بالقرآن الذين اتهموا رسوله بالإفتراء ، لماذا ؟ لأن التبرير الشائع الذي يلتجئ إليه مرضى القلوب للهروب من مسؤوليات قبول أوامر الرسالة المستصعبة هو التكذيب بها ، و هكذا حين جاء الأمر بأداء أجر الرسالة في المحافظة عليها عبر مودة القربى ثارت عصبية البعض ، وقالوا : إنما قال هذا لنقاتل عن أهل بيته و ننصرهم ، فأنزل الله : " أم يقولون " (1) .


(1) الدر المنثور / ج 6 - ص 6


[ أم يقولون افترى على الله كذبا ]

إنه لقول عظيم ، كيف ينسبون الى رسول الله الصادق الأمين الكذب ، و بالذات حين يتمثل في الإفتراء على الله ، وهم يعرفون مدى تفانيه في الله ؟

ثم هل من المعقول أن يدع الله رسوله الذي اختاره بعلم ، و أسبغ عليه نعمة الرسالة ، و أولاه بالنصر ، و أظهر على يده الآيات ، هل يدعه يتقول عليه ؟! كلا .. إنه إن يشأ يعاقبه ، و أبسط العقاب هو سلب رسالته منه ، بأن يختم على قلبه فلا يكاد يعرف شيئا .


[ فإن يشأ الله يختم على قلبك ]

و نستوحي من الآية : إن من يفتري على الله يعاقبه الله بالختم على قلبه ، فيسلبه حلاوة مناجاته ، و لذة التقرب إليه .

ومن سنن الله في الحياة إزهاق الباطل ، و أحقاق الحق .. و هذا دليل على أن رسالة الله حق ، و رسوله صادق أمين .

[ و يمح الله الباطل و يحق الحق بكلماته ]

إن من أدلة صحة الرسالة أن كلمات الله في القرآن ليست من أجل الرسول أو من أجل قومه و عشيرته أو مصالحه ، أو مصالح فئة معينة ، إنما من أجل الحق ، تتطابق مع السنن الجارية في الخلق ، فهي باقية ، بينما الثقافات الأخرى تنتهي حينما تزول عوامل نشوئها ، فإذا كانت ناشئة الطبقية أو العنصرية أو القومية زالت حيــن تتبدل الدولة الحاكمة ، وإذا كانت ناشئة الخرافات و الجهالات و العصبيات زالت بزوالها ، وهكذا ترى كلمات الله في القرآن لا تؤثر فيها المتغيرات أنى كانت ،لأنها ناشئة الحق الذي لا يتغير ، مما يدل على أن هذا القرآن هو الصحيح ، وأن تلك الثقافات هي الباطلة .

[ أنه عليم بذات الصدور ]

إن الله يعلم ما في صدورنا لذلك فهو يعالج الجوانب السلبية مما في صدورنا بالجوانب الإيجابية ، يعالج شهواتنا و أهواءنا بما أركزه في قلوبنا من العقل و المعرفة .

[25] مهما كان الإنسان حذرا فأنه لا يمكنه اتقاء السقطات ، وهذا دليل على أن الانسان ليس بإله ، وأن الضعف طبيعة فيه ، لذلك فإن الله يقبل التوبة عن عباده . أوليس هــــو الخالق و يعلم تكوين الإنسان الجسمي و النفسي ، و أنه ضعيف أمام أمواج الشهوات ، و ضغوط الحياة ؟ ولكن المؤمنين هم الذين يستعيدون إيمانهم بسرعة ، و ينهضـــون من سقطتهم ، بالتوبة الى الله ، لما يعرفونه من عظيم مغفرته ، و واسع رحمته .

[ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ]

فإذا عادوا إليه استقبلهم بترحاب .

[ و يعفوا عن السيئات ]

فحينما تفعل سيئة بعد سيئة فإن السيئات تتراكم على ذهنك ، ويكون لها آثار سلبية على واقعك ، ولكن رحمة الله الواسعة تأتي لتطهر قلبك منها .

[ و يعلم ما تفعلون ]

فأنت بين التوبة الى ربك أو انتظار عقابه لأنه يعلم ما تفعل فلا تستطيع كتمانه .


[26] [ و يستجيب الذين ءامنوا و عملوا الصالحات و يزيدهم من فضله ]ماذا يستجيب لهم ؟ السياق يوحي بأن المؤمنين بولاية الله و المسلمين لإمامة الحق يتعرضون لضغوط هائلة ، فإذا انهاروا ثم تابوا قبل الله التوبة منهم ، وعفى عن سيئاتهم ، وإذا طلبوا من ربهم النصر انتصر لهم ، و زادهم من فضله .

وهذا أحد مصاديق الآية ، إلا أن الآية تسع كل دعوات المؤمنين ، و بالذات حين تكون لبعضهم البعض ، وقد وردت رواية بذلك حيث فسرت الآية بالشفاعة فيما بين المؤمنين ، ولا ريب أن دعاء المؤمنين لبعضهم نوع من الشفاعة ، بل هو الشفاعة .

فقد روي عن الإمام الصادق (ع) قال : قال رسول الله (ص) في قوله : " و يزيدهم من فضله " .

" الشفاعة لمن وجبت له النار ممن أحسن إليهم في الدنيا " (1) .

و يحفزنا هذا التفسير على المزيد من التعاون بين بعضنا البعض ، لأن آثار التعاون تمتد من الدنيا حتى الآخرة ، ولعل الواحد منا قد استحق النار بعمله إلا أن ربنا يغفر له بدعاء إخوانه .

أما أولئك الذين لم يستجيبوا لنداء الله و دعوة الحق فليس لا يستجيب الله دعاءهم فحسب ، وإنما هم يعرضون أنفسهم أيضا لعقاب الله و عذابه الأليم .

[ و الكافرون لهم عذاب شديد ]


(1) مجمع البيان / ج 9 - ص 30


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس