فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[27] إذا كان الرب يحب عباده فلماذا لا ينشر رحمته عليهم أكثر فأكثر ؟ لماذا لا يملأ الأرض رحمة و رخاء ؟

ذلك لأنه عالم بطبيعة البشر ، فلو أعطاهم أكثر من قدرتهم على الإستيعاب لبغوا في الأرض ، و انحرفوا عن الحق ، فمــن رحمـة اللـه على العباد أنه لا يرزقهم دفعة واحدة ، وإنما يرزقهم قدر حاجتهم و استيعابهم ..

[ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ]

إن نفس الإنسان قبل ترويضها بالقيم السامية جموحة ، وقد كبح الله جماحها بالحاجة الى الرزق ، ولولاها لدفعها البغي الى الفساد و الشقاء ، كما نجدها تطغى حين تحسن بالإستغناء ، حتى و ان كان هذا الأحساس خاطئا ، حسبما قال ربنا : " إن الانسان ليطغى أنرآه استغنى " (1)

[ ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ]

ومن أخبر من الله بعباده ، الذين خلقهم حسبما شاء ، و أركز في وجودهم الغرائز كيفما أراد ، و هيمنته العلمية بالغة فهم على عينه و بصره سبحانه .

وكل فرد يجري له الرب الرزق بقدر لا يدعوه الى الطغيان ، وقد جاء عن أنس عن النبي (ص) عن جبرئيل عن الله جل ذكره :

" إن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ، ولو صححته لأفسده ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ، وإن من عبادي من(1) العلق / 6 - 7


لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ، وذلك أني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم " (1)وعن الإمام الحسن (ع) قال :

" أرزاق الخلائق في السماء الرابعة تنزل بقدر ، و تبسط بقدر " (2)وقال الإمام الصادق (ع) :

" ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " : لو فعل ( أي بسط رزقه ) لفعلوا ( أي لبغوا في الأرض ) ولكن جعلهم محتاجين بعضهم الى بعض ، و استعبدهم بذلك ، ولو جعلهم أغنياء لبغوا " ولكن ينزل بقدر ما يشاء " مما يعلم أنه يصلحهم في دينهم و دنياهم " إنه بعباده خبير بصير " (3)[28] و مظهر آخر لحكمة الله في تدبير الحياة الغيث الذي يمنعه عن العباد أو يرسله إليهم حسب حاجتهم و استحقاقهم و استيعابهم ، فبعد أن يجتاحهم القنوط ، و تكبح صفة الكبر من أنفسهم ، و تمنع عنه صفة الطغيان ، لأنهم لم يقدروا على تحصيل الماء بطريقة أخرى ،بعدئذ يرسل الغيث ، و ينشر عليهم رحمته من خلال الغيث .. وهذه آية من آيات الهيمنة و الحكمة .

[ وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ]

و ختم اليأس على أفئدة الناس جميعا ( وهنا تتجلى بوضوح بلاغة القرآن حيث تتوازى فيه كلمة الغيث التي تعني فيما تعني الإغاثة مع كلمة القنوط الذي تثيره(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 579 .

(2) المصدر .

(3) المصدر .


شدة الحاجة .

[ و ينشر رحمته وهو الولي ]

الحاكم المطلق الذي يتولى تدبير الخلق ..

[ الحميد ]

لا يفعل إلا الفعل المحمود ، وإنما ينشر الرحمة بعد القنوط لكي ينبه الناس من غفلتهم و ضلالهم ، ولو أنهم عرفوا رحمة الله ( وهو وليهم ) بهم ، و حكمته البالغة في تدبيره لشؤون الخلق ، لاكتشفوا أسباب انقطاع الغيث عنهم التي قد تكون بسبب ذنوبهم ، بل و لعرفوا أيضا حكمة عودته إليهم ليعرفوا قدر ربهم فيعبدونه لا يشركون به شيئا .

[29] وليست هذه الآية الوحيدة التي تهدينا الى الله ، وإنما هي آية من بين الآيات التي لا تعد ولا تحصى ..

[ ومن ءاياته خلق السماوات و الأرض ]

على سعتهما ، و متانتهما ، و عظمة خلقهما ..

[ وما بث فيهما من دآبة ]

كالطيور و الحيوانات و مختلف الأحياء المتناثرة هنا وهناك .

[ وهو على جمعهم إذا يشآء قدير ]

لا يعجزه شيء لأن له مطلق الإرادة ، وإن الإختلاف في طبائعها و شرائع حياتهاو انتشارها في الكون لا يدل أبدا على تحررها من إرادة الله ، و خروجها عن المنهج الذي عينه الله لها ، أو السنن التي تحكم الخليقة ، فمتى ما شاء ربنا جمعهم في صف واحد للحساب .

[30] و يؤكد على الصلة بين سعي الإنسان و واقعه مرتين ، مرة عن طريق العوامل المادية الظاهرة التي تربط بين السعي و النتيجة ، فهو إذا سعى و ناضل و صل إلى أهدافه ، فالصحة بعد المرض و الغنى بعد الفقر ، و الأمن بعد الخوف ، كل ذلك رهين سعيه في السبيل القويم الذي جعله الله ..

وهذا ما يؤكده القرآن في آيات عديدة كقوله تعالى : " وإن ليس للإنسان إلا ما سعى " (1) و قوله : " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره " (2)ومرة عبرة العوامل الغيبية غير الظاهرة ، حيث يؤكد الإسلام أن أي عمل يقوم به الإنسان ينعكس على واقعه شاء أم أبى ، وليس بالضرورة أن يكتشف البشر كيفية ذلك ، بل كثيرا ما تكون العلاقة بين العمل و العاقبة غير معروفة و مثيرة للتساؤولات ، فما هي العلاقة بنصلة الرحم و طول العمر ، و بين انتشار الزنا و انتشار موت الفجأة ، و بين انحراف قوم لوط و الصاعقة التي دمرتهم ، و بين يقظة الإنسان بين الطلوعين و بين سعة رزقه ، و بين قيام الليل و طول العمر ، و بين الصدقة و دفع البلاء ، و بين الزكاة و النماء الإقتصادي، و بين الصدق و الأمانة و بين العزة في المجتمع ؟؟

كل هذه العلاقات قد تبقى مجهولة لدى الانسان ، و لكنها حقائق واقعة في(1) النجم / 39

(2) الزلزلة / 7 - 8


الحياة عرفناها أو جهلنا بها .

من هنا بدل ان يدفعنا الحرص الى الصراعات الإجتماعية دعنا نطبق المناهج الإلهية فهي كفيلة بتحقيق طموحاتنا المشروعة ، سواء عرفنا حكمتها و بالتالي علاقتها بتلك الطموحات أم لم نعرف ، لأننا لابد أن نعترف بعجزنا عن الإحاطة علما بدين الله ، أليس دين الله آية علمه ، فهل يزعم أحد بأن يبلغ بعلمه مستوى علم ربه ؟ ومن هنا جاء في الحديث :

" إن دين الله لا يقاس بالعقول "

وبهذه الرؤية العميقة و الواقعية للحياة يتقدم الإسلام خطوة على المادية ، و خطوتين على القدرية ، فالقدرية تعتقد بانعدام العلاقة بين سعي الإنسان و واقعه منكرة بذلك عقلائية الأنظمة الحاكمة على الكائنات ، أما المادية العمياء فتعتقد بأن نظام الكون عقلائي ، ولكنها لا تعترف إلا بالعلاقات الظاهرة في هذا النظام ، منكرة العلاقات الخفية التي يكشفها الغيب .

بينما الإسلام بواقعيته يؤمن بعلاقة أكيدة بين سعي الإنسان و واقعه ، مرة عن طريق العوامل المادية الظاهرة ، و أخرى عن طريق العوامل الغيبية ، وذلك انطلاقا من الإعتقاد بأن كل ما يجري على الانسان ، بل كل ما يجري في الحياة ، إنما هو بعلم الله و بإذنه ، وهو لا يمنع أو يأذن إلا بحكمة بالغة يعلمها عز وجل ، وهو القائل : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (1)و تؤكد آيات القرآن هذه الحقيقة ببيان هيمنة الله على نظام الكون ، فالسحب التي تجمعها الأقدار ، و المطر الذي يهطل على الأرض الجرداء فيبعث فيها الحياة من(1) الرعد / 11


بعد ما يقنط الانسان ، كل ذلك لا يصير عبثا ، إنما بحكمة إلهية دقيقة ، فإذا قل الصدق بين الناس و تضاءل تعاطفهم على بعضهم ، و إذا ساد الظلم و الضلالة ، وإذا كثرت الذنوب و الفواحش ، بعدت رحمة الله المتمثلة في الغيث ، كما أن لنجاة أصحاب السفينة التي تمخر عباب البحر أو غرقهم علاقة بركابها ، فإذا كانوا أهل صلاح و سعي ، ساقتهم الريح الطيبة الى سبل السلام ، أما إذا كانوا ظالمي أنفسهم وقد انتهى أجلهم ابتلعتهم العواصف الهوج .

هكذا يبين ربنا العلاقة بين واقع الانسان و عمله فيقول :

[ ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ]

أيا كان نوع هذه المصيبة و طبيعتها .

[ و يعفوا عن كثير ]

ولو لم يكن الله رحيما بعباده لانتهت بهم أعمالهم الى الهلاك ، لأنهم يكسبون كل يوم ما يستوجب غضبه سبحانه .

جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) :

" ليس من عرق يضرب ، ولا نكبة ، ولا صداع ، ولا مرض ، إلا بذنب " (1)و جاء في حديث آخر عنه (ع) :

" إن الذنب يحرم العبد الرزق " (2)


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 581

(2) المصدر / ص 583


و جاء في رواية مأثورة عن أبي الحسن (ع) :

" حق على الله ألا يعصى في دار إلا أضحاها للشمس حتى تطهرها " (1)فلكي لا تصيبك ألوان العذاب تجنب الذنوب ، هكذا أوصانا أمير المؤمنين (ع) حين قال : " توفوا الذنوب ، فما من نكبة ولا نقص رزق إلا بذنب ، حتى الخدش و الكبوة و المصيبة ( ثم قرأ الآية وقال : ) و أوفوا بالعهد إذا عاهدتم فما زالت نعمة ولا نضارة عيش إلا بذنوب اجترحوها . إن الله ليس بظلام للعبيد ، ولو أنهم استقبلوا ذلك بالدعاء و الإنابة لما نزلت ، ولو أنهم إذا نزلت بهم النقم ، وزالت عنهم النعم ، فزعوا الى الله عز وجل بصدق من نياتهم ، ولم يهنوا ولم يسرفوا ، لأصلح لهم كل فاسد ، ولرد عليهم كل صالح " (2)

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (ع) :

" تجنبوا البوائق يمد لكم في الأعمار " (23)و روي عن الإمام الباقر (ع) :

" إن العبد ليذنب الذنب فيزوى عنه الرزق " (4)وقال :

" إن العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها الى أجل قريب أو الى وقت بطيء ، فيذنب العبد ذنبا فيقول الله تبارك و تعالى للملك ، لا تقضي حاجته(1) المصدر

(2) المصدر / ص 582

(3) المصدر

(4) المصدر / ص 583


و أحرمه إياها فإنه تعرض لسخطي و استوجب الحرمان مني " (1)[31 - 32 - 33] و يذكر الله الناس بأن عدم أخذه لهم على كثير من الذنوب ليس عن عجز ، وإنما هو رحمة منه بعباده ..

[ ومآ أنتم بمعجزين في الأرض ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير ]أي لو أراد أن يأخذهم على ما تكسب أيديهم ، لأنه تعالى الولي الحقيقي للانسان ولا ولي غيره وهو ذو القوة المطلقة ، فلا أحد يستطيع نصر نفسه أو الانتصار للآخرين عليه سبحانه . وهذه هي الأخرى من آيات رحمة الله و قدرته :

[ ومن ءاياته الجوار في البحر كالأعلام ]

وهي السفن الشراعية التي تجري في البحار بدفع الرياح ، والتي لو شاء الله لأوقفها فلا تتحرك .

[ إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ]

أي على سطح البحر ..

[ إن في ذلك لأيات لكل صبار ]

عند البــلاء ، فلا ينحرف عن الحق و الطاعة لله بسبب الضغوط السلبية في الحياة ..

[ شكور ]


(1) المصدر


يذكر الله و يحمده عند النعمة ، وعلى كل حال ، وهذا يخالف طبيعة الإنسان الذي يجزع عند البلاء ، و يكفر عند الرخاء ، بسبب علاقته الخاطئة بالحياة ، إذ يعيش لحظته الراهنة فقط ولا ينظر للمستقبل ، وهذا الأمر هو الذي يجعله ييأس و يستسلم للواقع ، بينما ينظرالمؤمن ببصيرة ربانية ثاقبة الى خلفيات الحوادث ، و مستقبل الأمور ، فلا تبطره النعمة ، ولا يؤيسه البلاء .

[34] وإذا أراد الله أن يبتلي أحدا أو ينزل عليه العذاب فهو قادر على ذلك و بطرق متعددة ، فهو تارة يوقف الرياح لتقف السفن التي نستقلها ، أو ربما أرسلها بشدة فإذا بها تهيج أمواج البحر فتبتلع سفننا ، وإلى جانب هذه القدرة الإلهية توجد في ا لطرف الآخر الأسباب و المقومات لإنزال النقمة ، وهي ذنوبنا التي نكتسبها كل يوم ..

[ أو يوبقهن ]

يغرقها ، و يهلك من فيها ..

[ بما كسبوا و يعف عن كثير ]

برحمته و لطفه ، لذلك ينبغي المبادرة الى الإستغفار ليل نهار حتى نأمن من سطوات الرب الجبار ، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام :

" تعوذوا بالله من سطوات الله بالليل و النهار ، قال : قلت : وما سطوات الله ؟ قال : الأخذ على المعاصي "[35] ولابد أن يعلم أولئك الذين يكذبون بآيات الله ، و يتشبثون بثقافة الجدال و التبرير من أجل ردها و التهرب من مسؤولية الإيمان بها ، أنهم محاطون بعلمالله و قدرته ، ومن ثم فإن جدالهم فيها لن يرفع عنهم المسؤولية ..

[ و يعلم الذين يجادلون في ءاياتنا مالهم من محيص ]أي مهرب و مفزع من الله .

قالوا : إن نصب " يعلم " جاء لأنه عطف على تعليل محذوف ، و كأنه قال : ينتقم منهم و يعلم الذين يجادلون .

[36] و كخاتمة لهذا الدرس الذي يحدثنا عن دور الحرص في الصراعات الإجتماعية كفكرة أساسية ، يصغر القرآن الدنيا و يهونها في أعيننا و أنفسنا ، لكي لا تكون من المنزلة عندنا بمكان تثيرنا نحو الصراع و البغي على بعضنا .

[ فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ]

مهما كان حجمه و قدره فإنه لا يعدو كونه بسيطا و ضئيلا نسبة الى متعة الآخرة و نعيمها ..

[ وما عند الله خير و أبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون ]و أفضلية نعيم الآخرة على متاع الدنيا من ناحيتين : فهو أفضل في كيفيته ، و أدوم في بقائه و متعة الإنسان به .

ولعل خاتمة الآية تهدينا الى أن التوكل على الله هي الصفة المقابلة للحرص على الدنيا ، وإنما لا يتسامى القلب عن الإنجذاب الى الدنيا لضعفه ، والذي ينجبر بالتوكل على الله سبحانه .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس