بينات من الآيات [1] [ حم ]
من الحروف المقطعة التي سبق أن فسرناها .
[2] [ و الكتاب المبين ]
قسما بالكتاب الذي يحتوي على الحقائق و يبينها .
[3] [ إنا جعلناه قرءانا عربيا ]
لعل الله قد جعل كتابه المنبعث من اللوح المحفوظ عربيا للأسباب التالية :
أولا : إن لغة الضاد أفضل لغات البشر إفصاحا عن الحقائق و الضمائر ، و إسمها ( العربية ) مشتق من الإعراب أي الإفصاح ، ولذلك فهي الغة الأم عند الله التي بها نزلت كتب الله أصلا إلا أنها ترجمت عند الأنبياء بقدرة الله الى ألسنة أممهم ، و قد جاء في الحديثعن الإمام الباقر (ع) :
" ما أنزل الله تبارك و تعالى كتابا ولا وحيا إلا بالعربية ، فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم ، وكان يقع في مسامع نبينا بالعربية " (1)(1) موسوعة بحار الأنوار / ج 18 - ص 263
ثانيا : لقد قدر الله بحكمته البالغة أن يحمل العرب رسالته الى الأمم فأنزل الكتاب بلسانهم .
ثالثا : إن ربنا يكــرر القول بأن الكتاب قد نزله عربيا ليدعو سائر الأمم - كما يبدو - لتعلم هذه اللغة ، حتى يستوعبوا لطائف كتاب ربهم ، و الإشارات البلاغية التي تعجز الترجمات عن بيانها .
وقد ألف أحد المستشرقين كتابا بالإنجليزية عن الإسلام فقال : لا أستطيع أن أبين لكــم - أنتم أيها الإنجليز - عذوبة آيات القرآن ، و لطافة معانيــه ، وكيف يؤثر في العربي .. و يضيف قائلا : إنه لن يفهم القرآن أحد حتى يتعلم العربية .
[ لعلكم تعقلون ]
هذا هدف رسالاته جميعا ، و كلمة " لعل " تدل على معنى الرجاء و الهدفية أي إنما جعلنا القرآن عربيا لكي تعقلوا ، و العقل هو موهبة لا يختلف الناس في أصلها ، و لكنهم يختلفون في مدى استفادتهم منها ، لذلك جاءت الكلمة بصيغة الفعل اي تستفيدون من العقل .
[4] [ وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ]
إن هذا القرآن هو انعكاس للكتاب الذي عند الله سبحانه و هو أصل الكتاب .
و الأم بمعنى الأصل و الأساس ، و الذي استوحيه من هذه الآية أن عند الله كتابا مكنونا هو أم الكتاب ، من نوره يفيض على البشر كتبه سبحانه ، فمنه أنزل على نوح (ع) رسالتـــه ، وعلى إبراهيـم (ع) كلماته ، و بعث موسى (ع) و عيسى (ع) بالتوراة و الإنجيل ، و منه أيضا أتى محمدا (ص) القرآن .
و قياس كل كتاب إلهي يتم بميزان أم الكتاب الذي يسمى - فيما يبدو - باللوح المحفوظ ، و حينما يقاس القرآن به يكون الأعلى رتبة ، و الأحكم شريعة و دينا ، فهو يعلو كل دين ، و ينفع الناس بما فيه من حكمة و علم .
[5] يزعم المسرفون الذين أترفوا في الحياة الدنيا أنهم عباد الله المقربون . أوليس قد أنعم عليهم بالغنى ، فهو إذا يحبهم و يكرم مثواهم ، و يقودهم هذا الزعم الشيطاني الى وهم خطير حيث يحتسبون أنهم فوق القانون ، و أعلى من الذكر .
ومن جهة أخرى : مادام الإسراف ذنب عظيم يتوهم البعض أنه يمنع عن المترفين رحمة الرسالة ، كلا .. فلا الإسراف خير يجعل المترفين فوق الإنذار بالرسالة ، ولا هو مانع من منة ابتعاث الرسل .
[ أفنضرب عنكم الذكر صفحا ]
نترككم بدون تذكرة و بدون رسل يذكرونكم ما نسيتموه ؟ و أصل الضرب صفحا كما قالوا ضرب وجه الدابة حتى تصرف وجهها جانبا .
[ ان كنتم قوما مسرفين ]
أي بسبب إسرافكم ؟
كلا .. وقد جرت سنة الله بارسال الرسل يذكرون الناس ، وقد بعث رسالاته الى المستهزئين رحمة بعباده .
و يبدو أن الإسراف راس سلسلة من الإنحرافات ، وهو بدوره ناشئ من جهل الإنسان بحكمة الإبتلاء في الدنيا ، و لماذا يحلم الله عن المذنبين ، ومن ضعف إرادته في مقاومة الشهوات يسير فيها بلا حدود أو قيود .
و يتناسب ذكر الإسراف و المحور الرئيسي للسورة وهو الإلتزام بحدود معينة في الإنتفاع بالحياة الدنيا .
[6 - 7] أن الرسول كالطبيب إنما يزور المرضى ، كذلك تزداد فرص ابتعاث الأنبياء بالرسالات عند انحراف الناس و اتخاذهم شريعة الإسراف سبيلا .
هكذا بعث الله الأنبياء الى الناس سابقا ، وهكذا مضت سنته .
[ وكم أرسلنا من نبي في الأولين ]
إلا أنهم كانوا يواجهون بالإستهزاء ، ولعل الإستهزاء أسوء اعتادت موقف عليه الأمم ، لأنه موغل في الصلف .
[ وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون ]
و الإستهزاء بالرسل عادة مضت في الأولين ، كما أن ابتعاث الرسل سنة إلهية .
[8] ولكن منع هذا الإستهزاء جريان سنة الله في بعث الرسل أو في إهلاك المستهزئين ؟ كلا .. لأن الله لا يضره كفر من كفر ، كما لا ينفعه إيمان من آمن .
[ فأهلكنا أشد منهم بطشا ]
فلقد أخذ الله من هو أشد جلدا و أكثر عددا من العرب المكذبين ، و الآية تشير الى ضعة الجاهليين العرب و ضعفهم لعلهم يستفيقون عن جنون كبرهم و غرورهم ، ولا يستهزؤون برسالات ربهم ، ولا يسترسلون مع تقاليدهم العفنة في الشرك و الفساد و الإسراف .
وقد تكررت الآيات التي تشير الى ذلك لأن علاج الغرور و الإسترسال و بالتالي الإستهزاء هو بيان نقاط ضعفهم ، قال ربنا في سورة الأحقاف (26) : " ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه " .
وقد قالت الصديقة فاطمة الزهراء (ع) تصف حال العرب قبل الإسلام :
" و كنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، و نهزة الطامع ، و قبسة العجلان ، و موطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، و تقتاتون القد ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ... " (1)[ و مضى مثل الأولين ]
قالوا : أي سبق القول في تصريف الأمثال ، و بيان عبرة الأولين ، كما قال ربنا سبحانه : " و سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم و تبين لكم كيف فعلنا بهم و ضربنا لكم الأمثال " (2) .
و يحتمل أن يكون المعنى : أنه قد تحقق مثل الأولين ، و انتشرت عبرتهم في الآفاق مثلا ، و الله العالم .
[9] و يستمر استهزاؤهم بالحق في الوقت الذي يعترفون بأن من خلق السماوات و الأرض عزيــز حكيم ، حيث تتجلى عزته في متانة الصنع ، كما تتجلى حكمته في دقة النظم .
(1) الإحتجاج : ج 1 - ص 100
(2) إبراهيم / 45
[ ولئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ][10] ومن آيات عزته و حكمته تذليل الأرض لتكون صالحة للمشي .
[ الذي جعل لكم الأرض مهدا ]
مهد الأرض و هيأها من أجل راحة الإنسان ، فلا هي صلبة يستحيل زراعتها و بناؤها ، ولا هي هشة يغرق فيها من عليها .
[ و جعل لكم فيها سبلا ]
السبل هي الطرق السهلة بالرغم من وعورة الأرض ، كما جعل طرقا واضحة حتى في البحــــار ، وعلى الإنسان ان يكتشفها حتى يهتدي الى أقرب الطرق الموصلة بين مكانين ، فهناك مثلا سلسلة جبلية تبدأ من المحيط الأطلسي غرب مراكش ، و تتجه الى المغرب العربي ، ثم تمربالبحر المتوسط ، و تصعد ثانية الى جنوب أوربا ، فشرقها ، ثم تتجه جنوب تركيا ، فجنوب روسيا ، فشمال الهند ، فشرق الصين ، و أمثال هذه السلاسل الجبلية كثيرة ، بالرغم من كل تلك السلاسل ، فقد جعل الله بينهما فروجا كثيرة يسير عبــرها الناس ، ولو كانت الجبالالعالية ذات انحدار شديد لعزلت أبناء البشر عن بعضهم .
وكما في السهول كذلك في السهوب خط الله سبلا لتواصل الناس مع بعضهم ، وهكذا في البحار و الفضاء ..
من الذين جعل هذه السبل ؟ إنه الله العزيز الحكيم ، و لماذا ؟
[ لعلكم تهتدون ]
نهتدي بهذه السبل الى أهدافنا ، والى ربنا الذي خلق هذه السبل ، فكلما كانت آيات الصنع و التدبير أكثر في الطبيعة كانت أكبر شهادة على الخالق ، و أقرب هدى .
[11] وكمـا خلق السماوات و الأرض ، و جعل الأرض مهدا هيأ للإنسان رزقه فيها .
[ والذي نزل من السماء ماء بقدر ]
بتقدير منه ، فقد يكون نزول الماء شديدا فتصير سيولا ، وقد يكون شحيحا فلا يستفيد منها الإنسان ، ولكنه سبحانه ينزل المطر بتقدير منه على حسب حاجة الإنسان و الأرض .
[ فأنشرنا به بلدة ميتا ]
وكما يحيي الله الأرض الميتة بالمطر ، فينمو الزرع و الضرع ..
[ كذلك تخرجون ]
وقد استفاد بعض المفسرين من هذه المقارنة بأن الانسان يخرج يوم البعث من الأرض كالزرع ، وقد جاء في الحديث :
" إذا أراد الله - عز و جل - أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحا ، فاجتمعت الأوصال ، و نبتت اللحوم "فيكـون القبــر للإنسـان في يوم القيامة كرحم أمه ، أو كالأرض بالنسبة الى البذرة .
|