بينات من الآيات [12] [ والذي خلق الأزواج كلها ]
(1) آل عمران / 190 - 191
لماذا خلق الله الأشياء أزواجا ؟ لأمرين - فيما يبدو لنا - : أولا : لتتجلى قدرته المطلقة . أوليس حسن الصنع و متانة الخلق في إطار التنوع دليل القدرة ؟ فإنك ترى في ذات الوقت الذي يختلف الزوجان عن بعضهما اختلافا واسعا ، يخضعان لسنن واحدة تسوقهما الى هدف واحد ، أليس ذلك دليل قدرة الرب ؟
الثاني : لقد أركز الله في كل زوج الحاجة الى الآخر ، فهم محتاجــون الـى بعضهم ، و ذلك أبرز دليل على حاجتهم الشديدة الى الله خالقهم و مدبر أمورهم .
[ و جعل لكم في الفلك و الأنعام ما تركبون ]
فالذي خلق للبحار الفلك نمتطي صهوته لنبلغ أقصى الأرض بتجارتنا الثقيلة ، هو الذي خلق للصحاري الأنعام و سخرها لنا ، ليس فقط لتوصلنا الى أهدافنا المادية ، بل و ايضا لتقربنا الى الله ، أسمى غايات البشر و أعلى مراميه ..
لماذا ؟
[13] [ لتستوا على ظهوره ]
كي نستقلها ، و نستوي على ظهورها ، و نستوحي من كلمة الإستواء أولا : أن الله سخر الفلك و الأنعام للإنسان حتى يستقر في ظهورها دون وجل من تمردها عليه ، ثانيا : أن علينا أن نجلس عليها باستقرار ، و نتمكن منها ، ولا ندعها تجمح أو تضطرب .
كما نستوحي من الآية ضرورة تسخير الطبيعة و عدم إهمالها ، وقد ورد في الحديث : " كان أمير المؤمنين (ع) يقول : من وجد ماءا و ترابا ثم افتقر فأبعده الله " (1)(1) بحار الأنوار / ج 103 - ص 65
و الإستواء على ظهور الفلك و الأنعام هو الهدف المرحلي منها أما الهدف الأسمى لهذه النعمة و سائر نعم الله هو الإهتداء و التقرب اليه .
[ ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ]
فالهدف من نعم الله المادية هو السمو الروحي . إنها معراج الإنسان الى الله ، فــــإذا شبعت فقل : الحمد لله ، وإذا ارتـويت فقل : الحمد لله ، وإذا استغنيت فقل : الحمد لله ، وإذا ركبت السيارة فقل : سبحان الله ..
و يذكرنا القرآن الحكيم بالأهداف المادية و المعنوية لنعم الله علينا ، بالذات في هذه السورة التي تحورت حول علاقتنا بالطبيعة من حولنا ، للأسباب التالية :
أولا : لكي لا نزيغ عن الغايات النبيلة للنعم ، فالزواج جعل ليبنى به البيت و السكينة و المحبة و الخلق الرفيع فلا ينبغي ان نجعل هدفنا منه مجرد قضاء وطر الشهوة ، و جعلت الأنعام للإستواء على ظهورها و بلوغ الأهداف المشروعة ، وليس للهو بها أو للتجبر و البطش على الناس .
ثانيا : لكي لا تبطرنا النعم و نتخذها للتفاخر و التكبر و الفساد في الأرض .
ثالثا : لتعطينا السكينة النفسية والتي تساهم في إصلاح نفوسنا من عقدة الضعة ، و تدعونا لشكر الله بعمل الصالحات .
لذلك أمرنا الله بهذا الدعاء عند ركوب الأنعام لكي ينقلنا امتطاؤها الى آفاق روحية أبعد من تلك الآفاق الأرضية ، التي نطويها عبرها . أرأيت أي أفق بعيد يبلغه من يقطع المسافة بين الشهود و الغيب في لحظة فينتقل من رؤية النقص في الطبيعة الى الكمال في خالقها !
[ و تقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا ]
و نتساءل : لماذا أمرنا الله هنا بالتسبيح وليس بالحمد ؟
ذلك لأن حاجتنا - نحن البشر - الى الدواب أو الفلك ، و ضعفنا عن توفيرها لولا تسخير الله ، شاهد على تنزه الله و غناه ، فهو غني عن عباده ، غنـي عن التوسل بالآلات ، غني عن تسخير شيء لنفسه ، تعالى الله و تقدس ربنا عن كل ذلك .
ثم تسخير الأنعام و الفلك دليل عجز الحيوانات و الطبيعة و حاجتهما الشديدة لمدبر حكيم هو الله .
و يهدينا ذلك الـــى تسامي ربنا عن الحاجة . أوليس حاجة كل شيء دليل مخلوقيته ، فكيف يحتاج الخالق ؟
و أساسا كل نقص و عجز و حاجة و ضعف في الخلق شاهد على ما يقابلها عند الخالق لدلالة العقل أن صفة الخالق غير صفة المخلوق ، قال أمير المؤمنين (ع) :
" مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه " (1)[ و ما كنا له مقرنين ]
أي لسنا بقرناء له ، ولا مطيقين تسخيره ، ولا بمستوى ضبطه ، وأصل الكلمة من المقارنة بمعنى المشابهة في القدرة .
[14] [ وإنا إلى ربنا لمنقلبون ]
(1) نهج البلاغة / خ 185 - ص 269 - صبحي الصالح .
فالنعمة التي أعطيناها ليست دائمة ، و نحن مسؤولون عنها يوم القيامة ، لأن الله إنما أعطاكها لهدف مقدس سام ، وهو أن تعمل بمنهجه و بمقتضى أوامره .
وفي الآية ومضة أدبية فكما المسافر ينقلب إلى أهله كذلك الإنسان ينقلب الى ربه .
وحول هذا الموضوع جاءت طائفة من الأحاديث ، فعن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : هـل للشكر حد إذا فعله العبد كان شاكرا ؟ قال : " نعم " ، قلت : ماهو ؟ قال : يحمد الله على كل نعمة [ أنعمها ] عليه في أهل و مال ، وإن كان فيما أنعم عليه من ماله حق أداه ، و منه قوله عز وجل " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ، ومنه قوله تعالى : " رب ادخلني منزلا مباركا و أنت خير المنزلين " ، وقوله : " رب أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا" (1)
وعــن ابــي الحســن (ع) : " ... و إن خرجت بــرا فقـل الذي قال الله عز وجــل " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ، فإنه ليس من عبد يقولها عند ركوبه فيقع من بعير أو دابة فيصيبه شيء بإذن الله " (2)و روي عن معاوية بن عمار بن أبي عبد الله (ع) قال : " إذا استويت على راحلتك ، و استوى بك محملك ، فقل : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، ومن علينا بمحمد (ص) ، " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له له مقرنين ، و إنا الى ربنا لمنقلبون " و الحمد لله رب العالمين . اللهم أنت الحامل على الظهر ، و المستعان على الأمر ، اللهم بلغنا بلاغا يبلغ الى خير ، بلاغا الى مغفرتك و رضوانك ، اللهم لا طير(1) البرهان / ج 4 - ص 136
(2) المصدر / ص 593
إلا طيرك - الطير هو التشاؤم و الفأل الرديء - و لا خير إلا خيرك ، ولا حافظ غيرك " (1)وهكذا أمرنا الدين الحنيف بأن نذكر الله عند ركوب ما سخره الله لنا مباشرة من الأنعام ، وما سخره بأيدينا من الفلك ( و السيارة و الطيارة وما أشبه ) لكي نتذكر ما لهذه النعمة من أهداف معنوية و مادية ، كما أمرنا بأذكار و أدعية عند كل نعمة عند الطعام و الشراب و الزواج و زيارة البيوت و النوم و اليقظة و الوضوء و الغسل ، و حتى عند النظر في المرآة .. كل ذلك لكي نتذكر هدف كل نعمة فلا نزيغ عنه ، و نشكر الله عليها فلا نصاب بالبطر و الكبر .
|