بينات من الآيات [15] لقد بين القرآن حقيقة الفصل الأبدي بين الخالق و المخلوق حتى لا يضفى على الخالق من صفات المخلوقين شيء ، ولا ينعت المخلوق بصفة من صافت الخالق ، لأن الخالق لا يشبهه شيء .
و ذكرنا بسفاهة كل المعتقدات الجاهلية التي تخلط بين صفات الخالق و المخلوق ، و التي تنبعث - فيما يبدو - من النظرة الشركية الى المخلوق و إعطائه الذاتية و القيمة من دون الله .
وكان من معتقداتهم السفيهــة أن جعلوا لله البنات ، و زعموا أن فيها جزء من الله .
[ و جعلوا له من عباده جزءا ]
فقسموا الله جزئين ، أحدهما من ذاته ، و الآخر من عباده . أوليس الولد امتدادا لوالده ، حيث ينتقل جزء من الوالد فيه حتى يصبح بضعة منه ، هكذا زعم القائلون بالحلول أن جزء من الله ينتقل الى بعض عباده فيصبح نصف إله ، و يكتسب قداسة بين سائر عباده ، و ينتمي الى ذي العرش انتماءا نسبيا ( كما زعم النصارى أنه ثالث ثلاثة سبحانه و تعالى عما يصفون ، وكما يزعم المترفون أنهم يختلفون ذاتيا عن سائر خلق الله ) أولم يفقهوا أن كل من خلقه الله هو عبد لله و نسبته الى الله نسبة المخلوق الى خالقه ، وهم جميعا أمامه سواء، ( من حيث الذات ) ، ومن السفه أن يجعل له جزء من عباده دون جزء بل هم جميعا له ، ولكن في مستوى العبودية وعلى صعيد المخلوقية .
[ إن الإنسان لكفور مبين ]
إنه جحود متجاهر بجحده ..
أولا : لأنه يجحد بآيات ربه ، و يتنكر نعمه عليه ، انطلاقا من كبر في نفسه و بوعي منه و إصرار ، لانه لا يريد أن يسلم لأمره و يطيع أولياءه .
ثانيــا : لأنه يساوي بين من أنعم عليه كل هذه النعم السابغة و بين عباده العاجزين ، فيقول إن بعض العباد شركاء لله ، و ينسب إليهم من دون الله النعم .
و يتصل موضوع نكران النعم بهذه الشدة بمحور السورة - و هو علاقة الإنسان بنعم الله - اتصالا متينا إذ أن أهم ركائز العلاقة السليمة شكر الله ، و تجاوز حالة الكفران الطبيعية عند الإنسان الى حالة الشكر المنبعثة من الإيمان .
[16] وهكذا زعموا بأن الله اصطفى لنفسه البنات ولهم البنين .
[ أم اتخذ مما يخلق بنات و أصفاكم بالبنين ]
ولكن كيف يجتمع الخلق و التبني ، ثم لماذا يصطفي لنفسه الإناث و البنت في نظر الجاهلين ليست المثلى ، فكيف يضربوه لله مثلا ؟!
[17] [ و إذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ]مكفهرا من الغضب وجهه ، كاظما غيظه يكاد يتميز من الغيظ .
[18] [ أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ]فالبنت التي تكون نشأتها و نموها في الحلية - الزينة - و تعيش النعومة و الرقة ، هل هي قادرة على القيام بما تقوم به الملائكة ؟ كلا .. ولو اتخذ الله بنات لجعلهم فيرياض الجنان يمرحن ، ولم يجعلهن يمارسن أمور الحياة ، ثم إن النساء لذلك لا يكونن قادرات عل الخصام و الجدال كما الرجال لأنهن عادة يفصحن عن كل ما تجيش به صدورهن لفرط عاطفتهن .
[19] و لأنهم جعلوا لله جزء من عباده ، و زعموا أنه اتخذ البنات مما خلق وهم يكرهون البنات ، تراهم يعتقدون بأن الملائكة إناث .
[ و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ]
لماذا ؟ لعله للأسباب التالية :
أولا : إنهم زعموا في الملائكة ما زعمته النصارى في المسيح حيث جعلوا لله فيهم جزء ، لعله لعقيدة الحلول .. أو حسب نظرية الفيض و تنزل وجود الله ( تبارك و تعالى عما يقولون ) الى مرتبة الملائكة ، وهي عندهم أدنى من مقام الربوبية و أعلى من مقام سائر الخلائق .
ثانيا : لأنهم لم يحبوا الملائكة نسبوا إليهم التأنيث أوليست الإناث أقل قدرا من الذكور عندهم ؟!
ثالثا : لأنهم كانوا يتصورون الملائكة يمثلون جانب الشهوات ، بينما مقام رب العرش مقام العقل .
رابعا : قالوا إنما أنثت العرب الملائكة في لغتهم لأنهم كانوا يؤنثون كل مغيب عنهم ، محجوب عن أعينهم ، والله العالم .
[ أشهدوا خلقهم ]
هل كانوا حاضرين عندما خلقهم الله حتى يحكموا بأن الملائكة بنات ؟!
[ ستكتب شهادتهم و يسئلون ]
أي سنسجل لهم قولهم بأن الملائكة إناث ، و يسألون عنه يوم القيامة ، وكفى بذلك رادعا عن أقوالهم اللامسؤولة .
[20] و يمضي السياق في دحض تخرصات الجاهليين الواحد بعد الآخر حتى يبلغ محورها الرئيسي المتمثل في النظرية القدرية ، ذلك أن أساس زيغ البشر - كما يبدو و كما سبق القول آنفا - النظرة الشيئية التي تعطي للأشياء قيمة ذاتية بعيدة عن صلتها بالله العظيم .. فتضفي عليها هالة من القداسة ، و الثبات و الحتمية .
إن الاعتقاد بوجود جزء من الله في عباد الله هدفه تجريد الإنسان عن مسؤولية أعماله . ألا ترى كيف يتنصل الطاغوت - أي طاغوت - عن الإلتزام بالقانون باسم أنه ظل الله في الأرض ، وأنه لا يخطئ ؟ و يزعم بعض أدعياء التصوف أنه مظهر لتجلي الحقيقة المحمدية فهو لا يزيغ ، و زعم بعض أدعياء الفقه بالتصويب ، وأن ما يحكمون به عين ما حكم الله به من فوق عرشه ، و هكذا الإنسان العادي يذهب الى تبرير أعماله بأن وراءها إرادة الله .
كما أن الشرك بالملائكة ينبعث من نزوع الإنسان الى تبرير أعماله ، و التهرب عن المسؤولية ، حيث زعم بأن الملائكة يشفعون له .
وهكذا نجد السياق يواصل الحديث عن هذه الأفكار الشركية حتى يبلغ جذورها المتمثلة في القدرية فيقول :
[ و قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ]
فالله سبحانه حسب هذا الزعم مسؤول عن ضلالتهم ، لأنه كان قادرا علىإنقاذهم منها فلم يشأ ، كلا .. إن الله آتاهم فرصة الهداية ، ووفر لهم عواملها ، و شاءت حكمته أن يلقي بمسؤولية الإختيار عليهم ، فإن اهتدوا بلغ بهم الكمال ذروته ، و إن ضلوا سقطوا في قعر الهاوية ، لأن تلك و هذه إنما تتم بإرادتهم .
وقد قلنا في بداية هذا الدرس أن هذه فكرة قدرية جبرية هدفها تبرير واقع الإنسان المتخلف ، و تلقي بمسؤولية الهداية على الله .
وقد أشار السياق الى سفاهة مجمل تصوراتهم ، فهم جهلوا مقام الخالق فجعلوا له من عباده جزء ، ولو عرفوا شيئا من معنى الخلق و الإنشاء و إحاطة الرب قدرة بكل شيء ، و أن أمره بين الكاف و النون من كلمة ( كن ) وفي لحظة إرادة يبتدع ملايين المجرات ..
أقول : لو عرفوا شيئا من ذلك لسفهوا أنفسهم ، ولم يزعموا أن له مراتب وجودية يتنزل عبرها ليكون جزء منه في مخلوقاته ، سبحانه الله و تعالى عما يقولون علوا كبيرا .
ولو عرفوا أن مهام الملائكة مهام صعبة لا تليق بالنساء الناعمات ، فمن مهامهم اقتلاع قرى لوط عن أعماقها ثم قلبها و تدميرها ، ومن مهامهم بيان أعظم الحقائق و أدقها ، و مخاصمة المبطلين ، فكيف تليق بمن ينشأ في الحلية ، ولا يفصح في الجدال ؟!
لو عرفوا ذلك لما زعموا أن الله اصطفى البنات على البنين .
ولو عرفوا قرب الملائكة من الله ، و مدى كرامتهم عنده ، لأنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، لما عادوهم و ضربوا لهم المثل السيء الذي رفضوه لأنفسهم حين قالوا أنهم إناث .
كلا .. إنهم عباد الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء ، وما داموا عبادا فهمفوق ما ينسب إليهم من الإنوثة ( وهي مرتبة أدنى في زعمهم ) و دون ما يتصور من أن فيهم جزء من الإلوهية .
و لأنهم عباد الرحمن فلا يجوز أن يتخذ منهم الرحمن بنات ، وقد شملت رحمته كل خلقه ، وكيف تتفاوت الخليقة تفاوتا ذاتيا ، وهي كلها مخلوقة لرب واحد ، بلى . إنما يتفاضل الخلق بينهم بما يهب الله لهم حسب حكمته البالغة .
و الآية تنسف أساس النظرة الشيئية الى المخلوقات التي هي أساس الشرك و أساس كل الزيغ البشري ، ببيان جهلهم المطلق بذلك الغيب ، فهم لم يشهدوا خلق الملائكة فكيف يحكمون بأنهم بنات ؟! و أساسا هل يجوز أن يتحدث الإنسان عما لم يؤت علمه ؟!
[ مالهم بذلك من علم ]
فهم يتكلفون علم ما لا قبل لهم به ، إنهم أرادوا أن يعرفوا كيف آتاهم الله العقل و الإرادة ، وكيف يجوز لهذا الإنسان المحدود أن يختار بنفسه ، وأن يتجاوز العوامل الضاغطة ، فوقعوا في ضلال بعيد .
[ إن هم الا يخرصون ]
أرأيت كيف يخمن الخراص وزن التمر على النخل ؟ إنه يعتمد على معلومات غير كافية ، يضيف إليها من خياله الخصب مالا يغنيه عن الحق شيئا .
و يوحي هذا التعبير بأنهم بنوا على فكرة صحيحة نظرية خاطئة ، فالصحيح هو وجود دوافع ضاغطة ، و الخطأ هو أنها تسلب إرادة الانسان .
صحيح أن للإقتصاد أثرا كبيرا على قلب الإنسان ، وان الناس عبيد الدنيا ،و أنهم يحوطون دينهم ما درت معايشهم ، ولكن الخطأ هو الحتمية الإقتصادية التي زعمت أن الإنسان محكوم كليا بطرق الإنتاج كما قالت الماركسية .
وهكذا للإجتماع جاذبية هائلة ، ولكنها لا تحتم على الإنسان شيئا ، وكذلك التاريخ يسوق البشر في اتجاهه دون أن يكرهه على ذلك إكراها .
ولولا قــدرة الإنسان على تحدي العوامل الضاغطة لما بنى حضارة ، ولا تقدم شبرا ، ولما استطاع الرواد أن يخرقوا جدر التخلف بسهام التجديد ، وما قدر الثوار أن يغيروا الواقع السياسي الفاسد ، ولا انتصر الرسل على الجاهليين الذين كانوا يملكون وسائل الإنتاج ،و أجهزة الإعلام ، و جاذبية المجتمع .
[21] ومن الحتميات الموهومة الحتمية التاريخية ، ولا يعترف الدين بالتاريخ و التراث و تقاليد الآباء إلا بقدر ما فيه من هدى الله الموحى به عبر رسالاته ، ولذلك نجد الذكر الحكيم يذكرنا بأنهم ما داموا لا يملكون كتابا يستمسكون به فلا قيمة لماضيهم .
[ أم اتيناهم كتابا من قبله ]
من قبل القرآن الذي يجادلون فيه .
[ فهم به مستمسكون ]
[22] كلا .. إن اعتمادهــم ليس على العلم ( لأنه مالهم به من علم ) ولا على كتاب ، إنما على تقاليد بالية .
[ بل قالوا انا وجدنا آبآءنا على أمة ]
على طريقة يأتم بعضهم بالبعض فيها .
[ وإنا على اثارهم مهتدون ]
نحن سائرون على آثارهم فنحن إذا مهتدون .
كلا .. إن الآباء لم يكونوا أنصاف آلهة ، ولا شرعية لعملهم ، ولا هدى في آثارهم من دون علم أو كتاب .
[23] وهذه عادة باطلة درج عليها المترفون حينما بعث الله إليهم الأنبياء .
[ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على اثارهم مقتدون ]فلربما كانت عقيدة الآباء منحـرفة ، ولربما كانت صحيحة ولكن في وقتها ، إذ ان " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " أو قد يكونوا صالحين ولكن مع تقادم الزمن حرفت عقائدهم .
وهذه الآية تبين لنا أن الناس انقسموا تجاه أنبيائهم الى قسمين : قسم اتبع الأنبياء ، وهم المستضعفون ، و قسم خالف هدى الانبياء ، وهم المترفون ومن اتبعهم من عامة الناس .
[24] بلى . من السفاهة اتباع الآباء بلا تعقل ، كما لا ينبغي رميهم بالإنحراف رأسا ، إنما يجب أتباع أهدى السبل سواءا عرفه الآباء أم لا .
[ قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ]
وهذا طعن غير مباشر ، وغير حاد لعقيدة الآباء ، فالرسول لم يطعن في سيرةالآباء ، بل دعاهم الى اتباع الأهدى ، مشيرا الى أن الآباء لم يكونوا مهتدين ، أو أن منهاجهم كان صالحا لذلك الوقت ، وقد نسخه تقادم الزمن ، و تطور الظروف ، فماذا كان رد أقوام الرسل لهذه الدعوة ؟
[ قالوآ إنا بمآ أرسلتم به كافرون ]
كفروا بما أرسل الرسل ، و تبين زيف ادعائهم بحتمية اتباعهم لآبائهم ، كلا .. ليس آباؤهم مسؤولين عن كفرهم ، بل هم المسؤولون .
[25] وحين تمت عليهم الحجة ، و ثبتت لهم مسؤوليتهم عن أعمالهم ، جاءهم الإنتقام .
[ فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ]
و سواء اعترف الإنسان بجريمته أو لم يعترف فإن قضاء الله واقع به إذا تنكب الطريق ، وهكذا لا يغنيه إنكار المسؤولية شيئا .
|