فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[26] ضمن سياق هذه السورة التي تتحدث عن تصحيح العلاقة بين الإنسان و ما حوله من بشر و طبيعة ، يبين لنا السياق القرآني العلاقة المثلى بين الإنسان و بين آبائه ، فعلاقته يجب أن تكون مع القيم قبل العلاقة بالماضي بما فيه من خير وشر .. لماذا ؟ لأن الإنسانلا يكتسب القدسية بمجرد مرور الزمان عليه ، و لأننا وهم أمام الله شرع سواء ، وإنما قيمتنا جميعا باتباع ما أمرنا الله به .

ولولا هذه العلاقة المجردة عن التقديس لما قدرنا الإنتفاع بتجاربهم ، و كيف نتقي الأخطار التي أحدقت بهم و أهلكتهم ، وما هي بدايات انحرافهم ، وماهي عاقبته ؟

كما أن العلاقة السليمة الى التاريخ تجعلنا نعيش واقعنا بصورة أفضل ، فمن الناس من تجده يهرب من حاضرة الى ماضيه ، ولا يرى إيجابيات عصره ، ولاإنجازات معاصريه ، ولا يتنعم بفوائده ، ولا يقبل التطوير و التجديد .. كل ذلك لأنه قد ارتمى في أحضان التاريخ ، يحتمي بكهفه ، و يتغنى بأمجاده ، و يجتر حوادثه ، و يتفاعل معها كما الإسطوانة الجريحة التي تكرر ذات النغمة أبدا ، وهذه حقا من أعظم علائم التخلف ،فمثلا لم تكن قريش عندما بزغ فجر النبوة تصدق بأن الرسول واحد منهم ، يعيش بين ظهرانيهم ، يأكل مما يأكلون ، و يشرب مما يشربون ، يكون أفضل من إبراهيم و موسى و عيسى ومن عظماء التاريخ ( عليهم السلام ) ، بالرغم من أن القرآن الكريم عند عرضه لقصص أنبياء اللهالكرام تراه يعرضها بواقعياتها الإيجابية و السلبية ، وكيف كذبهم الناس ، ولكن مع ذلك يقدسهم من يأتي من بعده . لماذا ؟ للتعويض عن الحاضر بالماضي ، الذي يأتي بدوره من منطلق التهرب من تحمل مسؤوليات الواقع الراهن ، ذلك لأن الذي يقدس واحدا من عظماء التاريخلا يكلفه ذلك شيئا كثيرا ، أما الذي يحترم قائدا حيا يعيش في عصره فإن ذلك يعني طاعته و التسليم لأوامره .

ومن هذا المنطلق يتحدث القرآن عن قصة إبراهيم مع قومه ، عندما تبرأ من عبادة الأصنام ، معتبرا أن عبادة الآباء لها ليس دليلا على شرعيتها ، و ورث هذا الفكر التحرري أبناءه ، و صارت تلك سنة يتوارثها المؤمنون الصادقون عبر التاريخ ، أن يؤمنوا بالله ، ولا يخضعوا للفساد المستشري بين الناس ، والذي تعودوا عليه ، ولا يخضعوا للشرعية المزيفة - شرعية ألامر الواقع - الذي يسميه عالمنا السياسي اليوم ، مهما كان هذا الواقع صعبا .

بعد ذلك تتحدث الآيات عن النظرة المادية البحتة الى القيم ، فلو أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، رجل من مكة أو آخر من الطائف . لماذا ؟ لأن الدنيا مقبلة عليهم ، و النظرة المادية الى القيم نابعة من النظرة المادية للأشياء ، فالقيمة كل القيمةفي نظر بعض الناس للمادة ، أو كأن المادة هي القيمة الأساسيةالتي تعطي الشرعية لسائر القيم .

[ وإذ قال أبراهيم لأبيه و قومه إنني برآء مما تعبدون ]كانت رسالة إبراهيم - عليه و على نبينا و آله السلام - موجهة ضد استمرارية الأمر الواقع ، ضد عبادة الآباء ، و تقديس شرعهم و معتقداتهم و تاريخهم ، لذلك قال لأبيه : إنني براء مما تعبدون من دون الله . و يعتبر هذا من أهم ما يتميز به إبراهيم الخليل من بينسائر الرسل .

[27] و بتبرء ابراهيم (ع) مما عبده آباؤه ، قطع صلاته بهم ، و اختط لنفسه و لآله من بعده خطا جديدا نظيفا هو التوحيد .

[ إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ]

فولاؤه - عليه السلام - لربه الذي فطره و خلقه ، وليس لآبائه ، رغم كونه ولد منهم لأنهم لم يكونوا سوى سبب ، وإذا كان الأمر كذلك فإن فاطره أولى بهدايته منهم .

[28] [ و جعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ]

أي جعل كلمة الرفض و البراءة مما يعبد الآباء باقية في عقبه لعلهم يرجعون إليها من الإنحراف ، ولم يجعل إبراهيم عليه السلام نفسه رمزا باقيا يتبع و يطاع ، لأن العصور تختلف ، وإنما كان ابراهيم نذيرا ، وإنه لابد أن يكون لكل قوم هاد ولكل عصر إمام .

وهكذا نستوحي فكرة من هذه الآية و آيات أخرى أن الأجيال التي تأتي بعد نهضة مباركة ينبغي أن يستفيدوا منها تجربة النهوض دون أن يعطوها كل الشرعية ،و يحولوها الى عقبة في طريق التطوير و التجديد ، أو يجعلوها كهف الهروب من الواقع و مسؤولياته الثقيلة ، كلا .. إن لكل جيل نهضته التي تأتي ضد وضع فاسد يختلف عن ذلك الوضع الذي نهض السابقون ضده .

وهكذا فسرت هذه الآية في النصوص الدينية بالإمامة ، فجاء في حديث مأثور عن هشام عن الإمام الصادق - عليه السلام - أنـه قــال : " إنمــا هي جارية في عقب الحسين ( عليه السلام ) كما قال الله عز وجل : " و جعلها كلمة باقية في عقبه " ثم هي جارية في الأعقاب و أعقاب الأعقاب الى يوم القيامة " (1)[29 - 30] وفي مقابل ابراهيم (ع) و ذريته من بعده الكفار الذين يتقلبون في نعم الله مما دعاهم الى الكفر و هكذا انقسم أبناء إبراهيم فريقين : فريق منهم حمله أمنانة الرسالة ، و جعل فيه كلمة الإمامة ، لعل الآخرين يجعلونهم مرجعا لهم في شؤون دينهم و دنياهم، أما الفريق الآخر ( وهم الأغلب ) فقد ابتلاهم الله بالنعم فأترفوا فيها .

[ بل متعت هؤلاء و ابآءهم حتى جآءهم الحق و رسول مبين * و لما جآءهم الحق قالوا هذا سحر و إنا به كافرون ]لما ناموا على حرير النعم ، و اطمأنوا إليها رفضوا أي فكرة جديدة ، وقالوا : هذا سحر ، و نحن كافرون به .

كانوا يحسبون أن هذه المتع التي متعهم ربهم بها دليل صلاحهم ، ولكن قد تكون المتع و النعم استدراجا منه سبحانه ، قال تعالى : " ولا يحسبن الذين كفروا(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 596


أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " (1) وقال عز وجل : " و أملي لهم إن كيدي متين " (2) .

و ربما تعني الآية أن الله متعهم حتى إذا جاءهم الحق و رسول مبين كذبوا به اعتمادا على النعم ، حيث يعزو القرآن في آيات كثيرة التكذيب بالرسل الى الإتراف ، كما سبق في الآية (23) حيث رأينا كيف قاد المترفون الناس الى التكذيب بالرسل ، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نعرف الصلة بين هذه الآية و الآيات التالية التي تتحدث عن المترفين .

ولكن هل النعم دليل صلاح أصحابها ؟ كلا .. بل قد يكون بلاء أو استدراجا ، جاء عن أمير المؤمنين (ع) :

1 - " يا ابن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه و أنت تعصيه فاحذره " .

2 - " كم من مستدرج بالإحسان إليه ، و مغرور بالستر عليه ، و مفتون بحسن القول فيه ، وما ابتلى الله أحدا بمثل الإملاء له " .

3 - " أيها الناس ! ليراكم الله في النعمة وجلين كما يراكم في النقمة فرقين ، إنه من وسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا ، ومن ضيق عليه في ذات يده فلم ير ذلك اختبارا فقد ضيع مأمولا " (3)ولكن لماذا يتهم الكفار الرسل بالسحر ؟ لأن الرسالات التي يأتي بها الرسل كانت قريبة من قلوبهم و عقولهم و عواطفهم ، و كانوا ينجذبون إليها ، ولكنهم لم(1) آل عمران / 178

(2) الأعراف / 183

(3) بحار الأنوار / ج 73 - ص 383


يريدوا الإيمان بها ، ففسروها بالسحر ، لأنه يجذب الفرد من حيث لا يدري ، ولكن جهلوا الفرق الكبير بين رسالة الحق و السحر الباطل ، فأثر السحر وقتي يزول بزوال المؤثر ، وهذا ليس في الرسالة ، كما أن الرسالة تطلب منك موقفا و أنت في كامل وعيك ، و انطلاقا من عقلك ، بعكس ما هو عليه السحر فأنت مجبور على سلوك معين بتأثير السحر ، و لا يفلح الساحر بينما صاحب الرسالة منصور من عند الله ، و نتساءل : كيف قالوا بأن الرسالة سحر ، وقد كانوا يتوسلون بالسحر في بعض الأحيان ؟ يبدو أن السحر كان مبغوضا عندهم ، وإنما يتوسلونبه أحيانا عند الحاجة .

[31] لماذا يكفر بالرسالات الإلهية المترفون ؟ لأنهم اتبعوا ما اترفوا فيه ، و ضاعت عنهم الموازين الحق ، و مسخت شخصياتهم الإنسانية ، فلم يعودوا يملكون مقاييس سليمة لمعرفة الحقائق ، فقاسوا كل شيء بميزان الماديات ، وهكذا زعموا أن رسالة الله لابد أن تنزل على كبار المترفين ، أوليس قد خصهم الله بنعمة الغنى حبا لهم و إكراما لمقامهم ، إذا فهم أحق بنعمة الرسالة .

[ و قالوا لولا نزل هذا القران على رجل من القريتين عظيم ]جاء في النصوص الدينية عن تفسير هذه الآية عن الإمام العسكري (ع) عن أبيه قال :

إن رسول الله (ص) كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة ، إذ قال له عبد الله بن أمية المخزومـي : لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا مالا ، و أحسنه حالا ، فهلا نزل هذا القرآن ، الذي تزعم أن الله أنزله عليك ، و ابتعثك به رسولا على رجل من القريتين عظيم : إما الوليد بن المغيرة بمكة ، وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أما قولك :


لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، الوليد بن المغيرة بمكة ، أو عروة بالطائف ، فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظم أنت ، ولا خطر له عنده كما له عندك ، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة ما سقى كافرا به مخالفا شربة ماء ، وليس قسمةرحمة الله إليك ، بل الله القاسم للرحمات ، و الفاعل لما يشاء في عبيده و إمائه ، وليس هو عز وجل ممن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله و حاله ، فعرفته بالنبوة لذلك ، ولا ممن يحب أحدا محبة اللهو كما تحب ، فيقدم من لا يستحق التقديم ، وإنما معاملته بالعدل ، فلا يؤثر لافضل مراتب الدين و جلاله إلا الأفضل في طاعته و الأجد في خدمته ، وكذا لا يؤخر في مراتب الدين و جلاله إلا أشدهم تباطؤا عن طاعته .

وأذا كان هذا صفته لم ينظر الى مال ولا الى حال ، بل هذا المال و الحال من تفضله ، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب - اللازب الشديد اللزوم - فلا يقال له : إذا تفضلت بالمال على عبد فلابد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضا ، لأنه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ، و إلزامه تفضلا ، لأنه تفضل قبله بنعمه .

ألا ترى يا عبد الله كيف أغنى واحدا و قبح صورته ، وكيف حسن صورة واحدة و أفقره ، و كيف شرف واحدا و أفقره ، و كيف أغنى واحدا و وضعه ، ثم ليس لهذا الغنى أن يقول : هلا أضيف الى يساري جمال فلان ، ولا للجميل أن يقول : هلا أضيف الى جمالي مال فلان ، ولا للشريف أن يقول : هلا أضيف الى شرفي مال فلان ، ولا للوضيع أن يقول : هلا أضيف الى ضعتي شرف فلان ، ولكن الحكم لله ، يقسم كيف يشاء ، وهو حكيم في أفعاله ، محمود في أعماله .

وذلك قوله تعالى : " و قالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " قال الله تعالى : " أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " فأحوجنا بعضهم الى بعض ، أحوج هذا الى مال ذلك ، و أحوجذلك الى سلعة هذا و الى خدمته .

فترى أجل الملوك ، و أغنى ، محتاجا الى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب ، إما سلعة معه ليست معه ، وإما خدمة يصلح لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به ، وإما باب من العلوم و الحكم هو فقير الى أن يستفيدها من هذا الفقير ، فهذا الفقير يحتاج الى مال ذلك الملك الغني ، وذلك الملك يحتاج الى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته ، ثم ليس للملك أن يقول : هلا اجتمع الى مالي علم هذا الفقير ، ولا الفقير أن يقول : هلا اجتمع على رأيي و علمي وما اتصرف فيه من فنون الحكمة مال هذا الملك الغني ، ثم قال (ص) : " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " ثم قال : يا محمد ! قل لهم : " و رحمة ربك خير مما يجمعون " أي ما يجمعه هؤلاء " (1)و نستخلص من هذا النص : أن الجاهلية تعطي القيمة للمادة لا للمبادئ ، وقد أشار القرآن الى هذه النظرة الشاذة عند ذكر قصة طالوت حينما أختاره ملكا لبني إسرائيل فقالوا : " أنى يكون له الملك علينا و نحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " (2)وعندما حكى قصة صاحب الجنة و صاحبه ، قال : " فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا ، و دخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا " (3)إذ زعــم هذا أن أمواله دليل على حب الله له ، ولهذا فهو لا يظن أن الساعة قائمة ، لأن الدنيا أنسته الآخرة ، ولكن إن قامت الساعة فسيجد خيرا منها منقلبا .


(1) الإحتجاج / ج 1 - ص 32

(2) البقرة / 247

(3) الكهف / 32 - 36


هكذا تمسك بالمقاييس المادية في تقييم الآخرة .

وهكذا زعم كفار قريش أن ثروة أحد الرجلين في مكة أو الطائف ترشح أحدهما للرسالة .

[32] وقد جاءت رسالات الله لتنقذ البشر من ويلات المادة و أصحابها ، جاءت لتكون بصائرها منارا للفقراء في كفاحهم ضد استغلال الأغنياء ، و للمستضعفين ضد إرهاب المستكبرين ، جاءت لتبصير الجاهلين بزيف قيم المادة التي يدعو إليها أدعياء العلم و الدين من أصحاب الطغاة و المترفين من أجل تكريس طغيانهم و فسادهم ، و تضليل المحرومين حتى لا يطالبوا بحقوقهم .

وهكذا رد القرآن تلك المقولة الجاهلية ببيان بصيرتين :

الأولى : كما أن الله تفضل على الأغنياء بالمال فلا يسأل عن ذلك ، كذلك يتفضل على البعض بالرسالة ، و لا يجوز أن يعترض عليه في ذلك .

الثانية : أن المال ليس أساسا سليما للتقييم ، بل رحمة الله المتمثلة في الرسالة هي الأفضل ، وهي - وليس المال - دليل حب الله لعبده ، و تخصيصه بفضله .

[ أهم يقسمون رحمت ربك ]

إن النبوة رحمة الله فهل فوض إليهم أمر تقسيمها بين عباده ؟ كلا .. فالله قسم المعيشة بينهم ، فقد أعطى لكل شخص معيشته ، حسب حكمته ، و لا يحق لأحد الإعتراض عليه ، و بالذات المترفون تراهم لا يعترضون على الله في تقدير المعيشة لهم ، فكيف يعترضون فيما هوأهم من المعيشة وهو رحمة الله المتمثلة في النبوة .

[ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ]


إن الله لم يعط الكمالات لجميع الناس ، بل أعطى المال و الولد ، و جعل بعضهم شريفا ، و أعطى لمن يشاء الملك ، و منع عنه سائر النعم ، فمثلا سليمان (ع) الذي سخر الله له الجن و الطير و الريح لم يرزق ولدا على شدة حبه له .

و نستوحي من قوله سبحانه : " نحن قسمنا بينهم معيشتهم " أن تقسيم المواهب و النعم كان بحيث تصلح حياتهم ( و عيشهم ) ، فأعطى ربنا كل واحد من الناس موهبة يحتاج الآخرون إليه فيها .

إذا عندما أعطى ربنا الوليد بن المغيرة و عروة بن مسعود الثقفي المال و الغنى ؛ فليس لأنهما أقرب الناس إليه أو أنه يحبهما و يكره غيرهما ، وإنما لأن الحياة قامت على أساس الحاجة المتبادلة بين الناس ، ولا يستغني أحد عن أحد ، و لذلك عندما سمع الإمام زينالعابدين (ع) رجلا يدعو قائلا : " اللهم اغنني عن خلقك " نهره وقال له (ع) : " ليس هكذا : إنما الناس بالناس ، ولكن قل : اللهم اغنني عن شرار خلقك " (1)و جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال : " اللهم لا تجعل بي حاجة الى أحد من شرار خلقك ، وما جعلته بي من حاجة فاجعلها الى أحسنهم وجها ، و أسخاهم بها نفسا ، و اطلقهم بها لسانا ، و أقلهم علي بها منا " (2)و الحكمة من هذه الحاجة المتبادلة انتفاع بعضهم من بعض ، وهذا تفسير قوله تعالى :

[ و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ](1) موسوعة بحار الأنوار / ج 78 - ص 135

(2) المصدر / ص 56


و السخرة هو الإستخدام ، فقد خص كل أناس بموهبة لتتكامل الحياة ، إذ لو جعل الله كل الناس مكتفين في كل شيء لكانوا يطغون و يتكبرون ، لأن بعض الناس وهم محتاجون بشدة الى الآخرين تراهم يقولون : " أنا ربكم الأعلى " ! فكيف إذا أحسوا بالإستغناء وتحرزوا من قيود الإحتياج الى الآخرين ؟!! بل لو لم يتفاضل الناس بالمواهب لما بنيت حضارة ، ولا تنامى مجتمع أن تجمع ، و لعاش الناس كما سائر الأحياء في صراع أبدي .

[ و رحمت ربك خير مما يجمعون ]

لقد زعموا أن الرسالة لابد أن تهبط على الأغنياء ، فردهم الله بأنه هو الذي يقسم بينهم معايشهم ، و أنه خص كل فرد بموهبة ، و أضاف : إن قيمة الرسالة أعظم من قيمة المال ، فلو كان ينبغي اجتماع الخير عند آخر فلابد أن تجتمع عند صاحب الرسالة ، لأنها أعظم قيمة عند الله .

[33] ولكي يقتلع جذور هذا التقييم الخاطئ من قلوب البشر ، مضى السياق في بيان خساسة الدنيا و عدم احترامها عند الله لأنها زائلة ، فإذا قيست بالآخرة لم تكن سوى متاع يسير .

[ ولولا أن يكون الناس أمة و احدة ]

أي على دين واحد هو الكفر بالله .

[ لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ]

أي لولا الخوف من تحول المؤمنين كافرين لأعطى الله الكفار كل ما يريدون ، و لجعل سقوف بيوتهم من فضة ، و لجعل بيوتهم طبقات عديدة يرتقون إليها عبر سلالم و درجات .


[ و معارج عليها يظهرون ]

[34] [ و لبيوتهم أبوابا ]

ربما سبب ذكر الأبواب لبيوت من يكفر بالرحمن هو أن تكون بيوتهم مركزا إجتماعيا ، أو يكون تعدد الأبواب دليل سعة البيوت ، أو المراد أن تكون تلك الأبواب كما السرر من فضة .

[ و سررا عليها يتكؤون ]

[35] [ و زخرفا ]

قال العلامة الطبرسي : الزخرف كمال حسن الشيء ، و منه قيل للذهب زخرف ، و يقال : زخرفه زخرفة إذا حسنه و زينه ، و منه قيل للنقوش و التصاوير زخرف . (1)و على هذا يكون المعنى أعطاهم ما يكمل حسنهم و حسن بيوتهم من الذهب و الفضة و الفرش و الأثاث ، وما الى ذلك .

ولكن الله منع بحكمته هذه النعم عنهم لكي لا يبتلى المؤمنون بلاء عظيما ، فلو فعل ذلك لم يتحمل أحد منهم إغراء النعم المتوافرة عند الكفار فكانوا يكفرون بالله جميعا .

جاء في الحديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :

" لو فعل الله ذلك لما آمن أحد ، و لكنه جعل في المؤمنين أغنياء ، وفي(1) مجمع البيان / ج 9 - ص 36


الكافرين فقراء ، و جعل في الكافرين أغنياء ، وفي المؤمنين فقراء ، ثم امتحنهم بالأمر و النهي ، و الصبر و الرضا " (1)هب ان الله أعطى كل ذلك للكفار ، فهل يعني ذلك أن لهم عند ربهم كرامة بذلك ، و للمؤمنين عليه هوانا ؟ كلا .. إن كل ذلك ليس - بعد كل ذلك - سوى متاع ، لا يستفيد منه صاحبه إلا قليلا ، وهي في الحياة الدنيا التي تأطر كل شيء فيها بالدونية و الضعة ، بينما هيأ ربنا الآخرة حيث القرار الأبدي للمتقين فدعاهم الى دار ضيافته ، و مقام كرامته ، و منازل قربه و رضوانه .

[ وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ]

المتاع : ما يتمتع به الإنسان مؤقتا .

[ و الاخرة عند ربك للمتقين ]

فالقيمة الحقيقية ليست للمادة الزائلة ، بل القيمة الأساسية للعمل الصالح الذي يدخره المؤمنون للآخرة .

و بكلمة : الدنيا زائلة ، وما فيها من نعم ليست سوى متاع لا قيمة له عند الله ، ولولا أن إغراء هذه النعم كان يسبب في ميل الناس جميعا الى الكفر لكان ربنا قد أكملها للكفار ، لدنائتها و زوالها ، ولكن الله اللطيف بعباده أبى أن يجمع الخيرات عند الكفار ليعطي فرصة الإيمان للآخرين .


(1) تفسير نور الثقلين / ج 4 - ص 599


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس