بينات من الآيات [36] كيف نواجه إغراء المادة ، و نتجاوز الإفتتان بما لدى الكفار من مظاهر القوة ، و زخرف الحياة ؟ إن الانسان من تراب وكل شيء يحن الى أصله ، فحب الدنيا عميق في كيان الإنسان وهو رأس كل خطيئة ، فكيف الخلاص منه ؟
علما بأنه من دون التطهر من حب الدنيا لا يخلص توحيد الانسان ، بل يظل يخلط عملا صالحا و آخر سيئا ، بل يشوب نيته نزغات شيطانية حتى في الصالحات من أعماله ، لا يخلص - مثلا - لقيادة الحق إلا عندما توفر له متاع الحياة الدنيا ، فإذا محص بالبلاء انهار في واديالشرك .
الإجابة تتلخص في كلمة ذكر الله ، فبه تفيض النفس سكينة ، و القلب اطمئنانا . إنه النور الذي يهزم ظلام الجهل و الوسوسة و الغفلة عن الفؤاد ..
فعندما تعصف وساوس الشيطان بالنفس ، و تتلاحق عليه نزغاته و همزاته ، لا يجد الانسان مفرا إلا الى الله . أولم يقل ربنا : " و إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم " (1) وقال سبحانه : " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " (2) .
ولكن البعض يعشو عن ذكر الله ، يتغافل عنه و يتجاهله ، لا يستعيذ بالله ، يستسلم لنزغات الشيطان ، ولا يتذكر أنه عدو مبين . وهنالك يتمكن منه الشيطان ، و يعين له الله قرين سوء من الشياطين يقوم بأمرين :
الأول : يمنعه من عمل الخير ، ولا يدعه يسلك سبيل الرشاد ، فيسلب بذلك توفيق الهداية عنه .
الثاني : يزين له سوء عمله فيراه حسنا فلا يفلح أبدا .
[ ومن يعش عن ذكر الرحمن ]
قالوا أصل العشو النظر ببصر ضعيف ، يقال عشى إذا ضعف بصره ، و أظلمت(1) الأعراف / 200
(2) الأعراف / 201
عينه
[ نقيض ]
نعين أو نتيح .
[ له شيطانا فهو له قرين ]
يلازمه ولا يدعه لوحده ليله و نهاره .
ولعل استخدام اسم " الرحمن " هنا لبيان مدى عمى الرجل الذي يعشو عن النظر الى آثار من وسعت رحمته كل شيء . أفلا التجأ إليه من عادية إبليس ، و فر الى كهف رحمته من عدوه المبين ؟!
[37] [ وإنهم ليصدونهم عن السبيل ]
بالضبط نقيض ما تفعله الملائكة بقلب المؤمن حيث تثبته على الطريق ، و تزيل عن طريقه العقبات حتى يتوفق لعمل الخير ، بينما قرين السوء يسوف صاحبه التوبة ، و يعرقل مسيرته الى الله ، و يلقي عليه الكسل كلما قام الى الصلاة أو دعي الى فعل الخير . إنه يملأ قلبه وعودا كاذبة و أماني و وساوس .
بل قد يفتح الشيطان أمام صاحبه بابا مستقبليا من الخير حتى يمنعه عن الخير العاجل ، ثم يمنعه عن ذلك الخير ايضا .
[ و يحسبون أنهم مهتدون ]
هكذا يزين الشيطان لقرينه الضلال حتى يحسبه هدى . وما دام الانسان يشك في طريقته يرجى له النجاة ، و لكن حينما يزين الشيطان له عمله فلا يجد في نفسهداعيا الى التفكر في صحة نهجه و سلامة خطه ، لا ينجو أبدا .
و نستوحي من الآية بصيرتين :
الأولى : إن الخطوة الأولى في سبيل الضلال كما في طريق الهدى يخطوها الإنسان بكامل حريته ، فإذا عشى عن ذكر الرحمن أضله الله بقرين السوء ، وإذا تذكر بصره و أعاذه من شر الشيطان .
إذا فمسؤولية الإنسان الكبرى هي اختيار الهداية بالإستعاذة بالله ، بالإقلاع عن حالة التكبر الدونية الى سماء العبودية لله .
الثانية : لا يلغي مسؤولية الإنسان عن عقائده و أفعاله أنه يحسب أنها صحيحة مادام هذا الحسبان آت من تزيين الشيطان . إنه كمن يلقي نفسه من شاهق يتحمل مسؤولية عمله حتى ولو فقد الإختيار أثناء دحرجته بين الصخور . لماذا ؟ لأنه هو الذي سلب نفسه القدرة حين رمى بنفسه من عل .. كذلك الذي يرفض الإلتجاء الى الله فيقيض الله له شيطانا يضله . إنه لا يزال مسؤولا عن ضلالته لأن بدايتها منه .
وهكذا مجرد الإعتقاد بشيء لا يبرر المضي فيه ما لم يعتمد على منهج سليم ، و إلا فكثير من المجرمين يعتبرون أفعالهم صالحة .
[38] إذا أردت أن تعرف حقيقة شيء في الدنيا فانظر كيف يتجسد في الآخرة ، إذ أن تلك الدار هي المقياس . إنها الحصاد الأكبر بينما الدنيا مزرعة وهل يعرف الزرع إلا بالحصاد .
وإنما يصور لنا كتاب ربنا مشاهد الآخرة ، و يبث في كل موضوعة صورامناسبة لها من واقع الآخرة ، بهدف جعلها مقياسا ، و لعلنا نقترب أكثر فأكثر الى حقائق الخلق ، ولا ننظر الى ظاهر من الحياة الدنيا .
وهنا في سورة الزخرف حيث تبين آياتها المحور السليم للحياة وهو التوحيد ، لا المال ولا الصداقة القائمة على أساسه ، يبين لنا القرآن مشهدا من مشاهد الصراع القائم هنالك بين أصدقاء السوء هنا ، فيقول :
[ حتى اذا جآءنا ]
و حضر عند ربه هذا الذي عشى عن ذكر الله .
[ قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين ]يتمنى يومئذ أن يكون بينهما ما بين المشرق و المغرب لما يجد من سيئات الإقتران به .
[39] كلا .. لا ينفع التبرء من البعض ، ولا ينفع التبرير ، لأن الظلم قد وقع فعلا بكامل اختيارهم ، و النار تسع الجميع .
[ ولن ينفعكم اليوم ]
أي لا يجديكم نفعا أنكم تمنون التباعد عن بعضكم ، إذ أنه جاء متأخرا بعد أن ظلمتم أنفسكم .
[ إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ]
قالوا : لا ينفعكم اشتراككم في العذاب شيئا إذ لا تتقاسمون العذاب بل لكل الحظ الأوفر .
و قالوا : لا يتسلى أحد بعذاب غيره فليست هنالك البلية إذا عمت طابت ، لأن العذاب هنالك لا يطيب لأحد أبدا ، لأنه شديد و دائم .
و لأن قرناء السوء في خصام دائم مع بعضهم فلا يسلى أحد أبدا .
[40] وحين يضل قرين السوء صاحبه يكون مثله مثل الأصم و الأعمى .
[ أفأنت تسمع الصم ]
كلا .. لأن جهاز الإستقبال معطل عنده فكيف يستمع ، وقد قال الشاعر :
لقد أسمعت إن ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي[ أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين ]
كلا .. لأن من انحرف عن الطريق قليلا ترجى أوبته إليه ، ولكن الذي شط بعيدا حتى أحاطت به الضلالة كيف يمكن هدايته .
هكــذا ينبغي اليأس عمن استبد بقلبه حب الدنيا فأخذ يقيس كل شيء بالمال و الجاه ، و القوة الظاهرية . إنه في ضلال مبين ، ولا يعجبك ما عنده فتفكر في كسبه بأية وسيلة فتقدم له التنازلات من دينك و مواقفك ، كلا .. ما عند الله خير و أبقى .
[41] إن عاقبة هؤلاء العذاب في الدنيا و قبل العذاب الأكبر عند ربهم ، و سواء تم ذلك بعد وفاتك أو في حياتك فإنهم معذبون ، فلا تغررك أموالهم و أولادهم ، ولا يحزنك مكرهم و دعاياتهم ، ولا تستعجل عليهم فإن العذاب الذي ينتظرهم شديد .
[ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ]
إن وجود الرسول و المؤمنين بين الكفار قد يؤخر عنهم العذاب الى أجل محدود ، قال الله تعالى : " وما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " (1) .
[42] وقد يعذب الله الكفار في عهد الرسول و بمشهد منه أو من الدعاة من أتباعه ، لكي يريهم قوته و يقر أعينهم بنصره .
[ أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ]
فلا تنفعهم ثروتهم أو قوتهم شيئا .
[43] ولأن عاقبة الكفار الدمار فلابد من مواجهة إغرائهم و إرهابهم ، ولا يمكن ذلك إلا بالتمسك الشديد بالرسالة .
[ فاستمسك بالذي أوحي إليك ]
لينظر المؤمن الى الظواهر السياسية و الإجتماعية من خلال بصائر الوحي ، لكي لا يتأثر بها سلبيا ، و ليطبق مناهج الرسالة بدقة حتى يمكنه الله في الأرض ، لأن كل بند مــن بنــود الشريعة قوة و اقتدار ، وليكن واثقا من سلامة خطه فإن الثقة بالنصر طريق إليه .
[ إنك على صراط مستقيم ]
[44] وليس الشرف في أموالهم و مناصبهم ، وإنما هو في الوحي الذي يعبق ذكر المتمسكين به في كل أفق .
(1) الأنفال / 33
[ وإنه لذكر لك و لقومك ]
لقد ذهب أصحاب الأموال ، و أصبحوا أحاديث يعتبر بهم المعتبرون ، بينما بقي ذكر أصحاب الرسالة على كل شفة وعلى امتداد العصور .
بلى . إن أصحاب الرسالة مسؤولون قبل غيرهم عنها ، لأنها نزلت في بيوتهم فهم أحق بها و أهلها .
[ و سوف تسئلون ]
و جاء في حديث مأثور عن الإمام الباقر - عليه السلام - أنه قال : " الذكر رسول الله ، و أهل بيته أهل الذكر ، وهم المسؤولون " (1) .
[45] ولا يجوز الإستسلام لأهواء المترفين أو الطغاة ، لأن في ذلك شركا برب العزة . وقد جاءت الرسالة لتطهير النفوس من الشرك ، و تطهير المجتمع من القيادات الشركية ، فكيف تقبل بهم اليوم شركاء في السلطة .
[ وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن الهة يعبدون ]كلا .. إنما هو إله واحد ، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه يخضع بأحدهما لربه و بالثاني لأصحاب الثروة أو السلطة .
التوحيد محور العلاقة الإجتماعية :
سبق الحديث في محور سورة الزخرف المتمثل في تهوين شأن الدنيا ، لكي(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 105
لا يجعلها المسلم قيمة يقيس بها الأمور ، و آيات هذا الدرس تنسف العلاقة القائمة على أساس هذه القيمة الزائلة ، ذلك أن القيمة السليمة عند الله هي التي تمتد من الحياة الدنيا الى الآخرة .
وإذا استطعنا إصلاح قيمة التجمع أو الرابطة التي توصلنا ببعضنا فجعلناها الإيمان دون المصالح العاجلة ، ولا الإقليم ، و العنصر ، و الشهوات ، و الأهواء ، و العصبيات ، فقد أقمنا فعلا المجتمع الرباني المنشود .
ولقد جاءت رسالات السماء جميعا وفي طليعتها القرآن الكريم لتحقيق هذه الغاية السامية ، ولكن كيف ؟ بتهوين الدنيا ، وحط شأنها ، لكي لا تصبح بما فيها من زخرف مقياسا ، ثم بالنهي عن اتخاذ المترفين فيها قادة ، و أخيرا ببيان الرابطة الشيطانية التي تنتهي بأصحابها الى النار .
و إذا كان حب الدنيا أرضية فإن قيادة المترفين الشجرة . أما ثمرتها فهي الصلة بين قرناء السوء .
و يبدو أن السياق ذكرنا أولا بهوان الدنيا على الله ( حتى أعطاها للكفار ) ثم أخذ يبصرنا بحقيقة قرناء السوء في هذا الدرس ، حيث نستوحي منه بصائر حكيمة في الروابط الإجتماعية ، ذلك أن للعلاقة الإجتماعية - و بالذات تلك التي ترتكز عليها البنى التحتية للمجتمع - قاعدة ، فقد تكون الأرض قاعدة التجمع فتنشأ الصلة الوطنية و الإقليمية ، وقد تكون اللغة هي القاعدة فتنمو الحالة القومية ، وقد تكون المصالح العامة التي تنمو و تتسع الى الحالة الإمبريالية ، وقد تتجلى في صورة الأممية البروليتارية .
و الصلة التي تربط في هذه الحالات جميعا بين الانسان و الانسان هي صلة ماديةناشئـة من التراب ، بينما رسالات الله تريد صلة أخرى هي صلة الروح ، صلة الحب الإلهي ، صلة القيم الربانية ، وهذه الصلة قائمة على أساس ذكر الله .
وهي تستنزل رحمة الله ، و تنمي قيم الفضيلة و الخير و الإحسان ، كما تحافظ على الحق و العدل و الحرية ، بينما الصلات الأخرى تستدرج البشر الى نقمة الله ، و تطمس معالم الحق ، و لا تنمي الخير ، بل و تساهم - عادة - في إشاعة الفحشاء ، و بث روح الإعتداء و الظلم .
فإذا بحثنا عميقا في أسباب الشقاء و العداء و عوامل الصراع و الحرب و الإعتداء بين الناس ، سواء داخل التجمع الواحد أو بين الأمم ، فلن نجدها سوى هذه الصلات الجاهلية النابعة من حب الدنيا و زخرفها .
و القرآن هنا يحذرنا من الوقوع في هذه المهالك ، و يأمرنا بالتمسك بالوحي ، فمن عشى عنه فقد قرن به شيطان ، يبعده عن السبيل ، و يزين له السيئات .
و يبدو أن باطن هذه الآيات التبصير بدور القرين في حياة الإنسان ، و القرين قد يكون زوجة أو زوجا أو صاحب السبيل أو زميل الدراسة أو شريك التجارة أو الجليس و الأنيس ، و الإسلام يأمرنا بذكر الله حتى يكون معيار اتخاذ القرين ربانيا ، لأنه حسب ما يكون الإنسان يختار أقرانه ، وكما يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) : " كل امرء يميل الى مثله " .
" لا يصحب الأبرار إلا نظراؤهم " .
" لا يواد الأشرار إلا أشباههم " (1) .
(1) ميزان الحكمة / ج 5 - ص 298 .
وحين يتخذ القرين بمعيار إلهي تكون علاقته به متينة ، بينما إذا كانت المصلحة أو الهوى أساسا للصداقة انهارت بتبدل الأحوال ..
وحين يكون المعيار الإلهي حاكما يصنع المؤمنون من تجمعهم جنة أرضية حيث يوادون بعضهم في الله لا تجد في قلوبهم غلا للذين آمنوا و يأنس الواحد منهم الى صاحبه كما الظمآن الى شراب سائغ .. و هنالك تتجلى السعادة الدنيوية ، كما لا تتجلى في أي نعمة أخرى ..
و تمتد هذه الخلة حتى يوم القيامة حيث يقول ربنا : " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " وحتى تبلغ بهم الجنة حيث تراهم " إخوانا على سرر متقابلين " .
|