بينات من الآيات [19] [ يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي ]
آية الحياة أعظم آية يتعرف عليها الانسان ، حيث ان الحياة تنبعث من الأشياء الميتة ، و ربما تشير الآية الكريمة الى حقيقة مهمة يغفل عنها الانسان عادة : فالحياة موجودة سواء في النطفة ، أو في الحبة الصغيرة ، و لكنها من مجموعة أشياء ميتة تنبعث و تتكامل ،فالأرض ميتة ، و الاوكسجين ميت ، و المواد الكيمائية ميتة ، بل و الغذاء من الارض بالنسبة للنبتة أو من مجموع عدة أشياء بالنسبة للحي ميت ايضا .
كل هذه الأشياء الميتة تحيط بالنواة الحية داخل حبة الحنطة - مثلا - فتخرج منها نبتة كبيرة حية ، فربنا سبحانه يخرج هذا الحي من الميت ، و العكس صحيح ، فعندما يموت الانسان الحي هل تنتهي حياته ؟ كلا .. بل تبقى ، و لكن تنفصل الحياة عن الأجزاء الميتة التيكانت حية بحياته ، و تبقى تلك النطفة الحية ، و نستطيع أن نشبه تمدد الحياة في الأشياء الميتة و العكس بمصباح كهربائي تضيؤه في غرفة حيث اننا نجد أن الاشياء في الغرفة قد أضيئت بالمصباح ، و لا يعني أن الضوء قد انتهى لو وضعهنا ذات المصباح في صندوق . إن الأشيــاء في الغرفة لما أضيء المصباح أصبحت اضاءتها غيرية ، لا ذاتية ، أي ان الأشياء لم تتحول الى مادة النور .. ، و هكذا تمدد الحياة في الجمادات .
و الانسان كان نطفة حية في أصلاب آبائه جمعت حولها الأجزاء الميتة بارادةالله ، حتى صار أنسانا سويا ، فأخرجه الله من الميت ، ثم يعود كما كان عندما يموت ، فتبقى الحياة في القبر و لكن في حالة هجعة ، ثم تنمو مرة أخرى في يوم القيامة ، و يعود كما كان خلقا آخر ، فيكون المعنى كالتالي : يخرج الله الحي من الاشياء الميتة ، و يخرج الميت من الحي حين تتحلل الاشياء الميتة - أصلا - عن الحي ، و تبقى نطفته الاساس .
و كما يحيي الله الأرض بالمطر ، كذلك يحيي الانسان في الآخرة فيقول سبحانه : " و الله أنبتكم من الأرض نباتا " . (1)و في الروايات عن جعفر بن محمد الصادق (ع) قال :
" إذا أراد الله عز و جل أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحا ، فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم " . (2)و هناك تفسير آخر للآية يقول : إن الله يخرج الحياة من الأشياء الميتة كما خلق الانسان من التراب ، و يخرج الشيء الميت من الحي كما يميت الانسان .
و لكن يبدو لي أن التعبير القرآني لا يتناسب و هذا التفسير ، كما أنه لا يتناسب و معلوماتنا الحديثة عن الحياة و الموت .
ثم قال ربنا :
[ و يحي الأرض بعد موتها ]
إن منظر الحياة تدب في الأرض الموات يبعث البهجة في القلب ، و يهدينا الى(1) نوح / 17
(2) بحار الانوار / ج 7 - ص 33
جلال خالقنا العظيم ، كما يهدينا الى قدرته الواسعة التي يخرج بها الناس من قبورهم كما يخرج الخبأ من رحم الارض .
[ و كذلك تخرجون ]
و إن للآية تأويلا بينته الرواية المأثورة عن الامام الكاظم (ع) قال :
" ليس يحييها بالقطر ، و لكن يبعث الله رجالا فيحيون بالعدل ، فتحيي الارض لإحياء العدل ، و لإقامة العدل فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحا " . (1)كلما أمعن النظر البصير في تقلب الاشياء بين الموت و الحياة كلما ازداد معرفة بقدرة ربه ، و انه يبعث الناس بعد الموت .
[20] ومن آياته سبحانه خلق الانسان من التراب في عالم الذر ، ثم أودعه في اصلاب الرجال و ارحام النساء .
[ و من اياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ]قال العلامة الطبرسي في قوله : " خلقكم من تراب " أي خلق آدم الذي هو أبوكم و أصلكم " من تراب " ثم خلقكم منه و ذلك قوله : " ثم إذا أنتم تنتشرون " (2) و لكن يبدو أن التفسير المناسب و أحاديث المعصومين هو ان الله خلقنا جميعا ذرأ من التراب ، ثم أودعنا صلب أبينا آدم (ع) ثم نشرنا بقدرته .
[21] و من آياته سبحانه الحاجة الى الجنس الآخر ، تلك الحاجة التي تتجاوز(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 173
(2) تفسير مجمع البيان / ج 8 - ص 299
الجسد لتتصل بالروح ، و تنتهي حالة التوتر لدى الطرفين بالزواج .
إن حالة التوتر الموجودة لدى الطرفين تدل على أن خلق الانسان لم يكن عضويا ، فالله عز و جل جعل نظام الكون قائما على أساس الزوجية في كل شيء قال تعالى : " و من كل شيء خلقنا زوجين اثنين " (1) و هو سبحانه الذي خلق الزوجين الذكر و الأنثى .
و لو لم يكن الانسان ليجوع لما شعر بلذة الطعام ، كذلك لو لم يتوتر لما شعر بلذة الزواج ، و هذا دليل التقدير في الحياة .
[ و من اياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ]إن الله جعل استمرار حياة نوع البشر عبر التقاء الذكر بالأنثى ، و لكن هذا الإلتقاء لا يتم قسرا ، إنما يتم برغبة الطرفين ، فيبحث الرجل عن أنثاه ، و قد يلقي بنفسه الى التهلكة حتى يجدها ، ولولا هذه الرغبة الجامحة للزواج لتخلى عن الزواج رأسا ، لما فيه من مسؤوليات كبيرة ، و لكن الله الذي جعل خلقة الانسان عن طريق الزواج هو الذي جعل فيه حاجة نفسية لا تتحقق إلا به فقال :
[ و جعل بينكم مودة و رحمة ]
الزوجان اللذان لم يعرفا بعضهما حتى لحظة الزواج يندمجان معا ، و كأنهما روح واحدة تقمصت بدنين .
إن الصلة التي يمتن ربنا أصرتها بين الزوجين و من خلالهما بين سائر أبناء المجتمع تتجاوز المودة المادية القائمة على أساس المصالح المشتركة و الخدمات المتبادلة(1) الذاريات / 49
لتصبح صلة روحية تفكر كل طرف في مدى عطائه قبل أن يبحث عما يأخذه ، و قد يضحي بنفسه من أجل المحافظة على قرينه أو قريبه .
و بتعبير آخر : ينطلق التقاء الزوجين من أرض الشهوة الجنسية ، و الحاجة الى اشباع الحاجات المادية المختلفة ، و لكنه لا يقف عند هذا الحد ، بل يمضي قدما حتى يصبح حبا عميقا ، يقوم على اساس الإيثار و العطاء ، و يصل الى حد الفداء و التضحية .
و هكــــذا تكــون العلاقة في البداية " المودة " ، و لكنها لا تلبث حتى تصبح " رحمة " .
[ إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون ]
و هدف التفكر هو إثارة المعلومات الظاهرة و تقليبها على بعضها للحصول على معلومات جديدة ، و حين يتفكر الانسان في ظواهر الحياة المحيطة به و التي قد يستخف بها لأنها أصبحت جدا واضحة ، فإنه يبلغ غور المعرفة و يفهم حكمة الحياة .
[22] و من آياته سبحانه خلق السموات و الارض ، و اختلاف ألوان الناس و ألسنتهم ذلك الاختلاف الواسع .
[ و من ءاياته خلق السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لايات للعالمين ]يبــدو أن هناك علاقة بين خلق السموات و الارض ، و بين اختلاف اللون و اللسان ، و ربما تكون هذه العلاقة موجودة ، ففي المناطق الإستوائية لون البشرة سمراء ، و تقل السمرة كلما ابتعدنا عن خط الإستواء ، حتى تتحول الألوان منالأسمر حتى الأبيض فالأصفر ، و هذا الاختلاف يسهل التعارف الذي هو اساس تنظيم الحياة البشرية . و الحديث التالي يبين كيف أن طبائع الارض ذات أثر في اختلاف البشر ، و ما هي حكمة هذا الاختلاف : يسأل رسول الله (ص) عبد الله بن يزيد بن سلام فيقول : فأخبرني عن آدم لم سمي آدم ؟ قال :
" لأنه من طين الأرض و أديمها "
قال : فآدم خلق من الطين كله أو من طين واحد ؟ قال :
" بل من الطين كله ، و لو خلق من طين واحد لما عرف الناس بعضهم بعضا ، و كانوا على صورة واحدة " .
قال : فلهم في الدنيا مثل ؟ قال :
" التــراب فيه أبيض و فيه أخضر و فيه اشقر و فيه أغبر و فيه أحمر و فيه أزرق و فيه عذب و فيه ملح و فيه خشن و فيه لين و فيه أصهب ، فلذلك صار الناس فيهم لين و فيهــــم خشن و فيهم أبيض و فيهم أصفر و أحمر و أصهب و أسود على الوان التراب " . (1)
أما اختلاف اللسان فهو خاضع للظروف و البيئة المحيطة بالانسان .
و هذا الاختلاف دليل الحكمة ، ذلك لأن كل نوع يتناسب و محيطه ، كما لو راينا اختلاف أجهزة الطيارة و مختلف أجزاءها ، و عرفنا كيف أن كل جهاز يقوم بدور و هو مناسب لدوره و لو بدلنا جهازا أو جزء من جهاز بجهاز آخر أو جزء ثان لما تكاملت الطيارة و نهتدي منوراء ذلك الى كلمة صانع الطيارة .
(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 177
[23] و من آياته - عز و جل - منامكم بالليل و النهار ، و حسبما أعلم لم يتوصل العلماء حتى الآن الى سر النوم ، و كيف ينام ، و لماذا عندما يتعب الانسان تتراخى اعضاؤه و ينام ، و يكون مثله مثل الميت ؟
[ و من اياته منامكم بالليل و النهار ]
فالانسان ينام ليلا ، و قد ينام نهارا في القيلولة ، و قد أكدت بعض الروايات على استحباب نوم النهار إذ إنه يساعد على قيام الليل ، و قد جاءت بعض الروايات لتوضح حقيقة النوم .
1 - عن أمير المؤمنين (ع) قال :
" النوم راحة من ألم ، و ملائمة الموت " (1)2 - عن ابي عبد الله (ع) قال :
" ان النوم سلطان الدماغ ، و هو قوام الجسد و قوته " (2)[ ابتغاؤكم من فضله ]
نهارا .
ما الذي يدفعك الى الحصول على الرزق ، و بينك و بينه الكثير من العقبات ، إنك تصل الى رزقك عبر حاجة غريزية ولو لا تلك الحاجة الملحة ، ولولا قدرات الانسان العقلية و الجسدية التي تمكنه من تحصيل رزقه بتسخير ما في الارض ، لما(1) غرر الحكم
(2) بحار الانوار / ج 62 - ص 316
بقيت الحياة . أوليس في ذلك دليلا على حكمة خالقه و لطف عنايته ، و دقة تدبيره ؟
ثم ان لكل شخص رزقه الذي يهديه إليه ربنا ، ولو أمعنا النظر في أحوال الناس لغمرنا الايمان بربنا الذي يهيئ لكل واحد منهم طريقا للرزق حتى لا يدع أحدا إلا و يطعمه من رحمته .
جاء في الدعاء :
( اللهم إنه ليس لي علم بموضع رزقي ، و إنما أطلبه بخطرات تخطر على قلبي ، فأجول في طلبه البلدان ، فأنا فيما أنا فيه كالحيران ، لا أدري افي سهل هو أم في جبل ، أم في أرض أم في سماء ، أم في بر أم في بحر ، و على يد من ، و من قبل من ، وقد علمت ان علمه عندك و أسبابه بيدك ، و أنت الذي تقسمه بلطفك ، و تسببه برحمتك ، اللهم فصل على محمد و آله و اجعل يا رب رزقك لي واسعا ، و مطلبه سهلا ، و مأخذه قريبا ، و لا تعنني بطلب ما لم تقدر لي فيه رزقا ، فإنك غني عن عذابي و أنا فقير الى رحمتك ، فصل على محمد و آله وجدعلى عبدك بفضلك إنك ذو فضل عظيم ) (1)
[24] ومن آياته رزق الانسان من السماء ، فهو سبحانه يرسل السحاب حاملا معه الخوف و الطمع ، ذلك أن الانسان يخشــى السحب التي قد تكون نذيرا بالصواعق أو السيول ، و لكنه يطمع في خيراتها في ذات الوقت .
[ و من اياته يريكم البرق خوفا و طمعا و ينزل من السماء ماء فيحي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لايات لقوم يعقلون ](1) مفاتيح الجنان / تعقيب صلاة العشاء
و للبرق قيمة زراعية ، إذ أنه يؤمن الجو فيتكون المازوت من اندماج ذرات الأوكسجين بالهيدروجين بالنيتروجين .
هذا التناسب في الكون دليل على ان الذي يقدر الكون و يديره هو الله سبحانه ، و أن هذه الآيات القرآنية المبثوثة في الكون لا يفهمها و لا يستفيد منها إلا أولئك الذين يفكرون و يستفيدون من عقولهم .
ذكر الله سبحانه في هذه الآيات أربع جمل عقب كل آية ، و لعلها تخبر عن مراحل المعرفة ، فقال تعالى :
" ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "
" ان في ذلك لآيات للعالمين "
" أن في ذلك لآيات لقوم يسمعون "
" ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون "
فنحن بحاجة الى الفكر و العلم و السماع و العقل .
فنحن نفكر حتى نحصل على العلم ، و العلم يدعونا للإستفادة من علوم الآخرين عبر سماع علومهم و أخبارهم ، و عندما نجمع علومنا الى علومهم آنئذ نعقل ، و عندما نعقل نصبح مؤمنين بالله عز وجل ، لاننا نستطيع أن نستوعب آياته و نتوصل بها إليه .
|