فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[25] بين القدر و القضاء ما بين التشريع و التنفيذ ، و لقد سن ربنا للخليقة سننا نسميها بالأنظمة و القوانين ، و لكنها لا تعني شيئا لولا إجرائها و امضائها و تنفيذها و الذي لا يكون إلا بالقضاء وهو يتجلى في امر الله ، فما هو أمر الله ؟

لكي نعرف قدرا من ملكوت السموات و الارض يستخدم القرآن الفاظا تعودنا عليها في حياتنا اليومية ، فنحن حينما نريد ان يتحقق شيء نأمر به من هو دوننا ، و عندما يريد الله شيئا يأمر به و لكن أمره مشيئته التي لا راد لها .

و السموات و الارض منظمة بتقديرات الهية و سنن ثابتة ، و لكن من يطبق تلك النظم و يجري تلك السنن ؟

إنه ربنا و بماذا ؟ بأمره .

إذا أمره مظهر سلطانه الدائم و هيمنته على كل صغيرة و كبيرة .

دعنا نضرب مثلا - و تعالى الله عن الامثال - :

إن الساعة الصغيرة ليس فيها نظام داخلي فحسب ، بل فيها أيضا قوة تجعل هذا النظام يطبق ، فلو سحبت هذه القوة لتوقف النظام ، هكذا أمر الله لو انعدم فرضا فان الكون ينتهي ، و ذلك لسببين :

أولا : لان النظام يتوقف تماما لعدم وجود ما يقوم به .

ثانيا : لأن وجود الخلق ذاته ينتهي ، لأن وجود كل شيء قائم بأمر الله سبحانه ، و لعل الآية التالية تشير الى كلا السببين :


[و من اياته ان تقوم السماء و الأرض بأمره ]

بأمره قامت السموات و الارض ، و كلمة " أمر " توحي بالقدرة التامة ، و بأن الفعل لا يكلف صاحبه عملا و لا يورثه نصبا ، و هو أصدق تعبير عن قيام الخليقة بالله سبحانه جاء في الدعاء :

( و جعلت الشمس و القمر و البرية سراجا وهاجا ، من غير أن تمارس فيما ابتدأت به لغوبا و لا علاجا ) (1)و كلمة القيام توحي بتمام الشيء ، و كماله فكما إن البشر حين يقوم يكون على أتم استعداد و في أفضل حالة ، فكذلك قيام السموات و الارض تعبير عن افضل حالاتهما ، و معروف ان تمام الشيء لا يعني مجرد وجوده ، بل و ايضا صلاحه و سلامته كل ذلك يدلنا على تمام قدرة ربنا و مطلق سلطانه و انه يقيم الخليقة بـ ( أمره ) فهو اذا يهلكها بـ ( أمره ) و يعيدها بـ ( امره ) .

و الانسان بين الخليقة يقوم بأمر الله ، و يهلك بأمره و دعوته ، و ينشر بأمره و دعوته ، و قد استخدمت هنا كلمة الدعوة لان البشر صاحب عقل ، و العاقل يدعى فيجيب .

و قدرته هي التي تستطيع ان تعيد ما في السموات و ما في الارض الى ما كانت عليه سابقا .

[ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ]

حين يأمر اسرافيل أن ينفخ في الصور فإذا هم قيام ينظرون ، يخرجون من(1) مفاتيح الجنان / دعاءالصباح


الأجداث إلى ربهم ، و كلمة " إذا " تدل على المفاجأة .

أي تخرجون كلكم جميعا ، دفعة واحدة ، بمجرد دعوته اليكم دون ان تملكوا قدرة الامتناع و التمرد أو التريث و التباطئ .

[27] و الله يبدؤا الخلق بقدرته ، إذا فهو أهون عليه حين يعيده ، و بالنسبة الى المخلوق فإن تقليد شيء مصنوع أسهل من ابتكاره ، أما بالنسبة الى الخالق المبدع فإن الامور لا تقاس بالصعوبة أو بالسهولة ، لأن أمره بين الكاف و النون ، " انما أمره اذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون " (1) و إنما عبر بأنه أهون لبيان هذه الحقيقة ، أن اعادة الشــيء بعد الخلق بذاتها أهون من ابتداع خلقه ( حتى ولو كانا بالنسبة الى قدرة الله سواء ) فلماذا نراهم يؤمنون بأول الخلق ، و يكفرون برجعته ، و هي عند الله يسير ؟!


و من هنا قال الحكماء : ان الكلمات عاجزة عن التعبير عن ذات الرب سبحانه ، و إنما تعبر عن اسمائه و أفعاله ، و قالوا : خذ الغايات و اترك المبادئ ، فاذا قلنا ان الله رحيــــم ، فاننـا لا نعني ان لله قلبا ينبض بالحب ، بل انه عندما يرحم يفعل موجبات الرحمة ، و كذلك عندما نقول : " هو أهون عليه " " وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه " .

و هو اذ يبدء الخلق و اذ يعيده هينا لا يمارس لغوبا و لا علاجا ، ولا يحتاج الى أدوات و آلات ، و لا تجد في خلقه ثغرات أو فطورا ، و كلما مشيت في مناكب أرضه ، و قلبت وجهك في ملكوت سمواته ، و أنعمت النظر في عظيم تدبيره ، و حسن نظامه ، و متانة صنعه ، كلما ازددت بصيرة باسمائه الحسنى بأنه الملك القدوس السلام(1) يس / 82


المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، و بالتالي بأن له المثل الأعلى الذي تشير اليه آيات الجمال و الكمال في السموات و الارض .

[ و له من في السموات و الارض ]

بلى . السموات عظيمة واسعة ، و جميلة ، و رائعة النظام ، و حسنة التدبير ، إذا فهي تهدينا الى أن لربنا المثل الأعلى فهو العظيم الواسع ( قدرة ) و الجميل و المدبر . وفي الارض آيات الجمال و الجلال و هي تهدينا الى سلطان الرب و ملكوته و سائر اسمائه الحسنى.

و لأن لربنا المثل الأعلى فلا يمكن ان نقيس به شيئا فهو الأعلى مما نرى و مما لا نرى في السموات و الارض ، و لا يجوز إذا ان نشبهه بشيء أو نتوهمه أو نتصوره سبحانه ، جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق (ع) في تفسير الآية :

" الذي لا يشبهه شيء و لا يوصف و لا يتوهم فذلك المثل الاعلى " (1)[28] يضرب ربنا سبحانه مثلا من واقع الجزيرة العربية ، حيث كانوا يعيشون نظام السادة و العبيد فيخاطبهم : هل يقبلون أن يشاركهم عبد من عبيدهم ما يملكون فهم و اياه سواء ، علما انه و ما يملك لهم ؟!

اذا كانوا لا يوافقون على هذا الاقتراح . فكيف يجعلون لله اندادا ؟!

[ ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء ]متساوون في الشركة ، و أكثر من ذلك ...


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 180


[ تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ]

كما هي عادة الشركاء يخاف بعضهم من بعض ، فهل تخافون عبيدكم ؟ كلا ..

[ كذلك نفصل الايات لقوم يعقلون ]

لأنه لا يعقل آيات الله إلا ذوي الألباب .

[29] و الحقيقة هي : إن الذين يشركون ليس يتبعون شريكا كرها ، و لا يضلون عن الحق لغموضه أو لعدم قدرتهم على معرفته ، بل لاتباعهم الهوى .

[ بل اتبع الذين ظلموا اهواءهم بغير علم ]

و عبادة الهوى هو جوهر الشرك ، لأن المشرك إنما يتبع طاغوته خوف الذبح ، ولا يخضع المشرك للغني إلا طمعا في ماله ، فالمشكلة بالنسبة الى المشرك هي حب الخلود و الراحة .

و الآية تذكرنا بأن الظلم أساس اتباع الهوى ، و هو بدوره سبب الضلالة ، و لعل ذلك يهدينا الى دور الفساد في العلاقات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و دوره في ضلالة الانسان .

فاذا كانت العلاقات القائمة بين ابناء البشر سليمة ، و لم يكن بعضهم يظلم بعضا ، لم تكن حاجة الى اتباع الهوى .

كما تذكرنا الآية ان الهوى و العلم ضدان ، فمن اتبع هواه رحل عنه العلم ، و من خالف هواه استضاء بنور العلم ، و الذي يتبع هواه بغير علم سوف يضله الله .


[ فمن يهدي من أضل الله ]

إن الله يضل الانسان ، و يسلب منه علمه اذا لم يعمل بذلك العلم ، و ترك علمه الى جهله ، و اتبع هواه ، و لا يجد إذا من يهديه من دون الله .

ثم ان الانسان يتبع هواه ، و يطيع الأنداد ، طمعا في نصرتهم ، و بحثا عن القوة عندهم ، و لكن الله يذكرهم بأنهم لا ينتصرون له أذا جاءه عذاب الله ، اذ لا يقدرون على ذلك .

[ و مالهم من ناصرين ]

في الدنيا و الآخرة من الذين عبدوهم ، و مالهم من شافعين .

و هــــذا يعني ان الانسان يحتاج في حياته الى شيئين : عقل يهديه ، و قوة تنصره ، فمن اتبع هواه فقد خسر العقل و القوة معا .

[30] ثم يقول الله للانسان : إذا أردت ان تعبد الله حقا ، عليك ان تنحرف عن كل الضغوط ، و بتعبير آخر عليك ان تكون حنيفا عن الشرك طاهرا نظيفا .

[ فأقم وجهك للدين حنيفا ]

الوجه أظهر شيء عند الانسان ، و لذلك يعبر به عن مواقفه و جهة سيره فيقال : توجهات فلان أي طريقته و سلوكه .

و القيام بمعنى الكمال ، لأن الانسان يكون في أفضل حالاته عند القيام ، و لذلك يقول الذكر : " أقم الصلاة " تعبيرا عن إتيانها بالوجه الكامل .

و يعبر الذكر هنا عن خلوص العمل بالدين عن شوائب الشرك بـ " أقم وجهكللدين " لأن مجرد قبول الدين لا يكفي ، بل ينبغي تطبيق كل المواقف و السلوكيات و التوجهات مع شرائعه ، و يؤكد ذلك قوله سبحانه " حنيفا " أي طاهرا من رجس الشرك ، و دنس الرذائل .

و لا يكون ذلك إلا بتحدي الضغوط .

فالحنيفية حقا ان تقدم و منذ البداية على مخالفة المشركين ، انك ان تتبع الذين يضلــونك بغير علم فأنت لست على طريق مستقيم ، يجب ان تشق طريقك بنفسك ، الى حيث ..

[ فطرت الله التي فطر الناس عليها ]

حيث الاستقامة . و هذا يعني انك اذا كنت تواجه ضغوطا خارجية تدعوك لاتباع الطريق المنحرف فان هناك ضغطا معاكسا في ذاتك يدعوك لاتباع الطريق المستقيم ، و هي الفطرة التي فطر الناس عليها ، حيث قال الله : " و اذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا انما اشرك اباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم افتهلكنا بما فعل المبطلون " (1)و أصل الفطرة الشق ، و سمي الخلق فطرة ربما لأن الخلق يتم عادة بانشقاق شيء عن شيء ، و معنى فطرة الله هنا : الوحدانية ، حيث انها جزء من خلق الناس جميعا ( و ليس المؤمنون منه فقط ) .

[ لا تبديل لخلق الله ]


(1) الاعراف / 172 - 173


لعل معناها ان الانسان لا يمكن ان يغير فطرته بالتربية أو التوجيه ، و حتى الأعمال السيئة لا تغير فطرة البشر .

فأنت ومن يعاقر الخمر أو يقتل الادميين في الفطرة سواء ، صحيح ان الفطرة تنتكس ، و تغطى بالذنوب الا ان المذنب يشعر بذنبه ، و الكاذب يشعر بكذبه ، و الضال يعلم بخطئه ، و لكن فطرتهم ضعيفة .

و هذه الفطرة الالهية الثابتة أفضل دين يلتزم به البشر ، و يتبعه ، و يرى شخصيته فيه لانه قيم لا عوج فيه ، و تستقيم معه شخصية الانسان و حياته و مجتمعه ، بينما تتطرف سائر الاديان يمينا و شمالا ، و تفسد ضمير البشر ، و تمسخ شخصيته و تضيع حياته .

و نستوحي من هذه الكلمة ان الدين ضرورة انسانية ، يشعر القلب من دونه بفراغ كبير ، الا ان أغلب الناس يخطئون في نوع الدين الذي يعتنقونه .

[ ذلك الدين القيم ]

و نستنتــج من هذه الآية ان طريق معرفة الدين الصحيح يتلخص في دليلين : الاول : هدى الله حيث يقول : " فأقم وجهك للدين حنيفا " و الثاني : الوجدان .

[ و لكن أكثر الناس لا يعلمون ]

مشكلة الناس انهم لا يستفيدون من علمهم ، لأنهم يتبعون أهواءهم ، و علينا ألا توحشنا قلة الديانين بدين الحق ، أو كثرة الميالين الى سبل الشيطان ، ذلك لأن اكثر الناس هم الذين لا يعلمون .

[31] و ليس هينا الإستقامة على الدين الحق ، لأن دواعي الشهوة ، و وساوسالشيطان ، و ضغوط المجتمع تميل بالانسان عن طريق الحق ، فلابد إذا من الإنابة الى الله دائما ، فكلما مالت اسباب الانحراف به شرقا أو غربا أناب الى ربه ، و التزم التقوى بتطبيق كافة الشرائع التي هي حصن التوحيد ، و سور المعرفة ، و من أبرز معاني التقوى إقامةالصلاة ، تلك الحصن المنيعة للإيمان ، و السور الرفيع لعرفان الرب .

[ منيبين إليه و اتقوه و أقيموا الصلاة ]

و الفرق بين هذه الآية وما قبلها ان ما قبلها تأتي بصورة مفردة بتعبير " فاقم " بينما في هذه الآية تأتي بصورة جمع ، و ذلك لأن الانسان واحد في مقام المسؤولية ، و لكن في مقام العمل يعمل مع الآخرين ، فالانسان مسؤول أمام الله لوحده ، و كل نفس مسؤولة عن نفسها .

ان الله طلب منا الالتزام بالصراط المستقيم عبر اقامة الوجه لدينه ، و اتباع فطرتــه التي غرسها فينا ، و لكن كيف يتم ذلك ، و كيف نحافظ عليهما ؟ يقول ربنا سبحانه : " منيبين اليه و اتقوه و اقيموا الصلاة " .

فأنت مؤمن بدينك و بدافع فطرتك ، انك عندما تذهب الى المسجد مثلا تجد هناك امثالك ، فانت وهم تكونون مجتمعا ، فأنيبوا الى الله ، و هناك نظرية تقول : ان الايمان يتبلور في مجتمع ، و ليس الفرد بوحده قادر على ان يترجم دين ربه لوحده ، فالله يدفع الناس بعضهم ببعض كي يحوطون هذا الدين .

و الانابة الى الله ، و تقواه ، و اقامة الصلاة كعجلة القيادة التي لا تدع السيارة تنحرف لو أمسكنا بها في طريق مثلج ، فالمجتمع يسحبنا يمينا و يسارا ، و لكن الانابة الى الله و تقواه ، و اقامة الصلاة تجعلها على الطريق المستقيم .


و هناك فرق بين اقامة الصلاة و بين الاتيان بالصلاة ، فإقامة الصلاة هو الالتزام بحدودها .

عن ابي عبد الله الحسين (ع) انه قال :

" و حق الصلاة ان تعلم انه وفادة الى الله - عز و جل - و انك فيها قائم بين يدي الله - عز و جل - فاذا علمت ذلك قمت مقام الذليل الحقير ، الراغب الراهب ، الراجي الخائف ، المستكين المتضرع ، المعظم لمن كان بين يديه بالسكون و الوقار ، و تقبل عليها بقلبك و تقيمها بحدودها ، و حقوقها " . (1)

و عن ابي عبد الله الصادق (ع) انه قال :

" اذا استقبلت القبلة فانس الدنيا و ما فيها ، و الخلق و ما هم فيه ، واستفرغ قلبك عن كل شاغل يشغلك عن الله ، و عاين بسرك عظمة الله ، و اذكر وقوفك بين يديه يوم تبلو كل نفس ما أسلفت ، و ردوا الى الله مولاهم الحق ، و قف على قدم الخوف و الرجاء .


فاذا كبرت فاستصغر ما بين السموات العلى و الثرى دون كبريائه ، فان الله تعالى اذا اطلع على قلب العبد و هو يكبر و في قلبه عارض عن حقيقة تكبيره قال : يا كاذب اتخدعني ؟! و عزتي و جلالي لاحرمنك حلاوة ذكري ، و لاحجبنك عن قربي ، و المسارة بمناجاتي .

و اعلم انه غير محتاج الى خدمتك و هو غني عن عبادتك و دعائك ، و انما دعاك بفضله ليرحمك و يبعدك من عقوبته " . (2)(1) بحار الانوار / ج 84 - ص 248

(2) المصدر / ص 230


و في بعض الاحاديث ان للصلاة حدودا .

عن زكريا بن آدم ، عن الرضا (ع) قال : سمعته يقول :

" الصلاة لها اربعة آلاف باب " (1)

و عن ابي عبد الله الصادق (ع) قال :

" للصلاة اربعة آلاف حدود " (2)

[ و لا تكونوا من المشركين ]

[32] من اجل الاستقامة على الدين الحنيف ، و الطهارة من رجس الشرك ، لابد من الإنابة ، و التقوى ، و اقامة الصلاة هنالك يدخل المؤمن في حصن التوحيد ، و يتقى مظاهر الشرك و من أبرزها الاختلاف في الدين شيعا و احزابا .

[ من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ]" فرقوا دينهم " اي اختلفوا عن الطريق الذي رسمه الله لهم ، فلم توحدهم مناهج الشريعة ، و لعل ( الشيع ) تعني اتباع الشخص بينما الحزب هو التقاء مجموعة من الناس في الافكار .

فاذا اردتم ان تعرفوا هل انتم على شرك أم على بصيرة من ربكم فانظروا هل عندكم خلافات تنبع من أهوائكم ، فالمجتمع الذي يتبع الله لا يختلف لان افراده جميعا يتبعون شخصا واحدا ، يقودهم الى الله ، و لكن لماذا يسمي الله الذين فرقوا(1) و (2) المصدر / ج 82 - ص 303


دينهم مشركين ؟

الجواب أحد احتمالين :

1 - اما انهم متبعون اهواءهم ، حيث قال ربنا : " بل اتبع الذين ظلموا اهواءهم بغير علم " .

2 - او لانهم اتبعوا اشخاصا بعينهم شذوا بهم عن سبيل الله .

و المشكلة الاهم ليس تفرقهم فحسب ، بل هم مغرورون بمكتسباتهم ، و كل حزب فرح بما حقق من مكتسبات و انتصارات .

و هذه الآية تكشف طبيعة التحزب الذي هو الغرور بما يملكه الشخص أو التجمع من حطام الدنيا ، دون التوكل على الله ، و الفرح بما يؤتيه عباده الصالحين من فضله .

و حين يعتمد البشر على غير الله يكله الله الى نفسه فيخسر الدارين أرايت كيف أخذ يقلب كفيه على ما انفق على حقوله الزراعية ، ذلك المغرور الذي نصحه صاحبه ان يقول مــا شاء الله ، فرفض ، أو رايت قارون حين أبى نصيحة قومه إذ قالوا له : لا تفرح ، كيف خسف الله به و بداره الارض ؟!

كذلك الذيــن يفرحون بما لديهم من اموال و انصار فيفرقهم هذا الغرور عن بعضهم ، و يبعدهم عن دينهم ، و يلحقهم بالمشركين و هم يحسبون ان مكتسباتهم الدنيوية دليل صدقهم ، بينما هم الاخسرون اعمالا .

[33] متى يعرف البشر أنه على حق ، أم على باطل ؟

ان ربنا يعطينا مقياسا وجدانيا ذاتيا ، ففي حالات الضر و الاضطرار هنالكينسى كل الآلهة المزيفة التي كان يعبدها ، ينسى هواه و يتجه بقلبه الى ربه .

[ و إذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ]

و لكن ..

[ ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ]و هذه مشكلة الانسان انه ينسى ساعات الحرج التي مر بها ، و لا عذر للانسان ان يقول : لم اعرف الله . بلى . قد عرفت حين الحاجة ، فقد توجهت آنذاك الى الله .

و نجد في الآية التعبير بـ " مس " و " أذاقهم " و هما يدلان على أدنى الاحساس ، و يعكسان بالتالي طبيعة البشر الجزوع ، و كيف انه بمجرد ان يمسه ضر يجأر الى ربه ، ثم بمجرد ان يذيقه طعم رحمته ينكفئ و يشرك به .

و المفهوم من الآية ان الناس جميعا يتوجهون الى ربهم عندما يحسون خطرا ، بينما بعضهم فقط يشركون بربهم عند النعمة .

وفي الآية هذه علاج حالة التحزب ، حيث ان الذين فرقوا دينهم إنما فرحوا بما لديهم ، و اغتروا بما يملكون من ثروة أو سلطان ناسين نعم الله عليهم ، و كيف انه سبحانه ملجأهم الاخير حين تتقطع بهم السبل ، و تضيق عليهم مذاهب الدنيا ، هنالك ينسون محاورهم الحزبية ، و انتماءاتهم المختلفة ، و يتجهون الى ربهم العزيز المقتدر .

[34] و هؤلاء الذين يشركون فور إحساسهم بالنعمة ، و يفرحون بما لديهم من نعم ظاهرة فيتبعون الانداد ، و يتحزبون لبعضهم غرورا بما يملكون ، انهم يكفرونبنعم الله ، و ينذرهم الله بأن كفرهم هذا يدعهم خاسرين لتلك النعم في الدنيا ، و لحظهم في الآخرة .

[ ليكفروا بما ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ]

و نستوحي من هذه الآية الحقائق التالية :

أولا : ان حالة التحزب القائمة على اساس الفخر ببعض ما لدى صاحبها من نعم تسبب الكفر بسائر النعم ، فمن بالغ في الفخر بابنائه ، لا يمكنه ان يتنعم بسائر الشباب في المجتمع ، و من تطرف في الاهتمام بثقافته و فكر حزبه لم ينتفع بعلوم الناس و معارفهم ، و منفرح بما يملكه من مال توقف سعيه ولم يستفد من فرص الاكتساب التي امامه ... و هكذا .

و عادة يصاب المتحزبون بانغلاق فيحرمون أنفسهم من نعم الله في الحياة .

ثانيا : ان الشكر على النعم ليس فقط يحافظ عليها و يزيدها ، و انما ايضا يجعلها هنيئة لصاحبها ، لان وعي النعم غذاء القلب ، و لذة الروح ، بينما الذين يكفرون بنعم الله انما يتمتعون ببعضها ، كما تتمتع الأنعام و لا يهنؤون بها كما يهنئ البشر ، اذ ان توجههم سيكون فقط الى الجانب المادي من النعم ، و ينسون الأبعاد المعنوية منها .

ثالثا : ان الكفر بالنعم يكون سببا لزوالها ، بل لتحولها الى نكال اذ ان من يتمتع بالنعم فقط سوف لا يراعي حدودها فيفسدها على نفسه ، كمن ينهم بالجنس مثلا لمجرد لذته تراه يسرف فيه حتى يفسد نفسه ، كذلك الذي يطعم لشهوة الأكل فقط يتجاوز الحد في التهام الطعام مما يفسد معدته ... و هكذا .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس