بينات من الآيات [35] انى كانت دوافع الضلالة و الاجرام عند البشر فانه يبحث لنفسه عن تبرير ثقافي ليسكت صيحة الوجدان التي لا تزال تدوي في ضميره ، و اخطر تبرير ثقافي يكون عندما يزعم الانسان أن الله أمره بما يهواه ، ذلك ان فطرة الدين الراسخة في كل قلب ، اعظم ضمانة لإصلاح البشر ، فاذا انتكست هذه الفطرة ترى اي ضمانة تبقى عنده ؟!
و السؤال : كيف نقف في وجه التبرير الشرعي للجرائم ، و كيف نواجه ادعياء الدين ، الذين لا زالوا يفترون على الله كذبا ، و كيف نتحدى هؤلاء الحكام الذين يبررون سلطانهم أبدا بأن الله معهم ، و انهم ظل الله في ارضه ؟
الجواب : انما يتم ذلك بالتأكيد على ان من يدعي انه من عند الله لابد ان يأتيبسلطان مبين ، بما لا يدع للشك مجالا ، و آنئذ فقط يجوز للعباد الاستماع اليه و التسليم لاوامره .
و هكذا يتساءل الذكر قائلا :
[ أم أنزلنا عليهم سلطانا ]
و برهانا يتسلط على القلب كله ، بما لا يدع فرصة للشك ، كما السلطان الذي أنزل الله على موسى (ع) بالعصى ، و على عيسى (ع) بإحياء الموتى ، و على محمد (ص) بالقرآن ، و لابد ان يكون هذا السلطان واضحا صريحا و كأنه ينطق بالذي يدعونه .
[ فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ]
اننا ربما نتساءل : لماذا يرد الله على مثل هؤلاء المشركين ؟ فنقول :
ان مشكلة هؤلاء مشكلة ثقافية ، و ربما بنيت حياتهم و سياستهم و أعمالهم على امثال هذه الأفكار ، فينسف الله امثال هذه الافكار من أساسها ، و لكي لا يحتجوا على الله يوم القيامة بانه لم يوضح لهم الحقيقة ، لقد اوضح لهم اياها ، و لا حجة لهم .
و كثير من المشركين يتصورون انهم مكلفون من الله باتباع شركائهم ، أو يزعمون ان الاصنام شفعاء عند الله ، و انها تقربهم اليه زلفى !
كما يزعم الطغاة اليوم حيث يعتبرون أنفسهم ممثلين عن الله سبحانه ، و كذا كان سلاطين المسلمين الذين قاموا باسم الدين ، كان يصورهم الشعراء بانهم آلهة من دون الله كما قال بعضهم في وصف احد الخلفاء العباسيين :
ما شئت لا ما شاءت الاقدار فاحكم فأنت الواحد القهارو قد ادعى هتلر انه مكلف من قبل الله سبحانه بأن ينقذ الشعب الالماني ، و كان رمزه الصليب المعكوف ، و هكذا المستكبرون في الغرب اليوم ، و القرآن يواجه كل هذه القوى الجاهلية التي تستعبد البشر باسم الدين بأنها ضالة ما لم ينزل الله عليهم سلطانا مبينا .
كما يجعل القرآن الناس امــام مسؤولياتهم مباشـرة ، من دون واسطة أدعياء الدين ، لكي يقطع الطريــق علــى وعاظ السلاطين ، و تجار الدين فلا يستغلوا سذاجة الناس ، و يحذروهم باسم الدين ، و يحرفون كلمه لقاء دراهم معدودة ، يتلقونها من الحكام .
[36] لماذا يتوسل بالشركاء و الانداد من دون الله ؟ السبب قد يكون التبرير الشرعي الذي نسفه السياق آنفا ، و قد يكون الزعم بانهم يرزقونهم من دون الله ، و الذي يعالجه القرآن من الجذور و يقول :
[ وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها ]
اي أحسوا بالبطر و الغرور ، و يبدو ان الفرح هو حالة الاحساس بالاشباع و الاستغناء ، و هي حالة ذميمة نهى الله عنها على لسان قوم قارون اذ قالوا له : " لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين " و لكنها حالة حميدة اذا اتصلت بالله ، فمن استغنى بالله أحسبالقوة بتوكله عليه .
و قد أمر الله بذلك اذ يقول :
" قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " (1)(1) يونس / 58
[ و إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم ]
فان السيئات لا تصيب البشر الا بسبب ذنوبهم ، و عليهم ان يغيروا واقعهم الفاسد حتى يغير الله ما بهم ، و لكنهم يصابون بالقنوط بعد السيئة .
[ إذا هم يقنطون ]
و يستــوحى من كلمة " اذا " ان القنوط يداهمهم فجأة ، و ذلك بسبب ضعف نفوسهم ، و ضيق أفق التفكير عندهم ، و الآية تبصرنا بعدة حقائق :
أولا: ان الجهل بالله يجعل القلب متقلبا بين الغرور و القنوط ، بينما الثقة بالله تتسامى بالقلب فوق النعم ، فلا يبطر بها ، و النقم فلا ييأس بسببها .
و القلب الجاهل بربه و المتطرف بين البطر و اليأس هو الميت المنكر لله ، المشرك به ، اذ ترى صاحبه يهوى الى درك التسليم لاصحاب الثروة و السلطة رجاء وفدهم ، و خشية حرمانه .
و من هنا تجد المؤمنين يدعون ربهم الا يحوجهم الى لئام خلقه ، بل لا يبتليهم بالحاجة الى غيره لكي لا تميل نفوسهم الى غير الله ، فيزعمون انهم الرازقون لهم ، جاء في رائعة مكارم الاخلاق :
( اللهم اجعلني اصول بك عند الضرورة ، و أسألك عند الحاجة ، و اتضرع اليك عند المسكنة ، و لا تفتني بالإستعانة بغيرك اذا اضطررت ، ولا بالخضوع لسؤال غيرك اذا افتقرت ولا بالتضرع الى من دونك اذا رهبت فاستحق بذلك خذلانك و منعك و اعراضك يا ارحم الراحمين )(1)
(1) الامام علي بن الحسين (ع) / مفاتيح الجنان / ص 601و لعل في هذا تكمن الصلة بين هذه الآية و التي سبقتها .
ثانيا : تمهد الآية للحديث عن الصورة المشرقة التي يتحلى بها المجتمع القائم على أساس التوحيد ، و التباعد عن رجس الشرك . كيف ذلك ؟
ان كثيرا من الخصال الرذيلة تأتي بسبب حالة الجزع عند البشر ، فانما البخل و الغش و الكسب الحرام كالربا و غيره من افرازات شح النفس ( الفرح - القنوط ) .
كما ان فضيلة الانفاق و الكرم و العفة تأتي من الثقة بالله ، و بأنه الرازق ذو القوة المتين .
و هكذا مهد السياق للامر بالانفاق ، و النهي عن الربا ، بمعالجة هذه الحالة البشرية .
ثالثا : ان قلب المؤمن يعيش بين اليأس و الرجاء ، و لذلك يعيش التوتر الايجابي الفاعل الذي يبعث أبدا نحو النشاط و السعي ، بينما قلب المشرك يتطرف نحو الفرح ، فيغله جمود الغرور و البطر ، أو يتطرف نحو الياس فيقعده القنوط عن السعي ، و هل يتحرك من لا أملله في النجاح ؟!
[37] ما علاقة هذه الحقيقة بالتوحيد ؟
العلاقة هي ان المؤمن يعتقد بان الرزق من الله ، و انه يبسطه لمن يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، فلا يفرح ببسط الرزق لانه قد يسلبه في اية لحظة ، و لا يقنط بقبضه ، لان الله قادر على ان يبسطه في اية لحظة .
[ أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر ]
بلى .. و لكن أغلب الناس يبصرون العوامل المباشرة للرزق ، و ينسون العامل الغيبي لذلك قال ربنا :
[ إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون ]
اما المؤمنون فانهم لا ينظرون فقط الى العوامل الظاهرة ، بل يبصرون اصابع الغيب التي تحرك تلك العوامل و تدبرها ، انهم يعلمون ان الفلاح لا يقوم الا بأعمال جدا ضئيلة اذا قيست بالعوامل التي تساهم في نمو الزراعة ابتداء من خصوبة التربة ، و عذوبة الماء ،و انتهاء بالمواد التي تنفسها الشمس عبر اشعتها ، و مرورا بسائر العوامل الرئيسية المفقودة مثلا في سائر الكرات الاخرى ، و لذلك أضحت الزراعة فيها مستحيلة .
و كما في الزراعة كذلك في سائر موارد الرزق ، و لذلك ترى المؤمنين وحدهم يهتدون بآيات الرزق ، و يشكرون ربهم عليها .
[38] لان الرزق من الله ، و لأن المؤمن لا يقنط من رحمته اذا فقد شيئا من ثروته ، ابتغاء رضوانه ، و لان المؤمن لا يفرح بما يؤتى ، ولا يحسب ما بيده دائما بل يراه عواري ، سوف يذهب منه في اية لحظة ، لذلك كله ينبغي ان ينفق من ماله للاقربين ثم ذوي الحاجةمن حوله .
[ فئات ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل ]
ليس دور الترتيب الذي ذكر في هذه الآية اعتباطا ، فقد جاء في الروايات ان ذوي القربى مقدمون على غيرهم في الانفاق .
جاء في حديث مأثور عن ابي الامام الحسين (ع) قال :
" سمعت رسول الله (ص) يقول : ابدأ بمن تعول أمك و أباك و أختك و أخاك ، ثم ادناك ادناك ، و قال : لا صدقة و ذو رحم محتاج " (1)و قد جاء في بعض الاحاديث تفسير ذوي القربى بآل بيت الرسول (ص) .
1 / و في كتاب الاحتجاج للعلامة الطبرسي ( رض ) عن علي بن الحسين (ع) لبعض الشاميين " أما قرأت هذه الآية " و آت ذا القربى حقه " قال : نعم ، قال (ع) : " فنحن اولئك الذين أمر الله عز و جل نبيه (ص) ان يؤتيهم حقهم " (2)2 / و في مجمع البيان ، عن ابي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية : " وأت ذا القربى حقه .. " اعطى رسول الله (ص) فاطمة (ع) فدكا . (3)[ ذلك خير للذين يريدون وجه الله و أولئك هم المفلحون ]يتراءى للانسان بادئ النظر ان الانفاق غرامة و خسارة ، بينما الحقيقة انه خير ، شريطة الا يداخله الرياء ، و حب السيطرة ، و ان يكون بالتالي في سبيل الله ، و الا فان ضره يطغى على نفعه ، اذ ان المستكبرين ايضا ينفقون اموالهم و لكن من اجل تحكيم قبضتهم علىالمستضعفين ، و سرقة ما تبقى عندهم من ثروات .
و السؤال : كيف يكون الانفاق خيرا ؟ و لماذا مجتمع الانفاق مجتمع مفلح ؟
الجواب : ان الانفاق سوف يزيد التكامل الاجتماعي ، مما يؤدي الى تماسك المجتمع و تقدمه ، بينما المجتمع المفكك ينهار سريعا امام المشاكل ، و لا ريب ان(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 147
(2) تفسير نور الثقلين / ج 3 - ص 155
(3) مجمع البيان / ج 8 - ص 306
فوائد التقدم تشمل المنفق كما المنفق عليه .
ثم ان يـدك اليوم اعلى فهل تضمن ان تبقى كذلك كلا فقد تحتاج الى من انفقت عليه ، أو غيره و جاء في معنى الحديث من كف يده عن الناس فانه يكف يدا واحدة و تكف عنه مأة يد .
و الانفاق يحرك عجلة الاقتصاد ، و ينمي الثروة ، لانه يرفع الحاجات الملحة التي تقعد اصحابها عن النشاط .
و لعل اعظم فائدة للانفاق هي تحرير نفس صاحبه عن أسر المادة ، و مساعدته على الخروج من شح الذات ، و تحسيسه بلذة العطاء التي تفوق عند الانسان السوي لذة الأخذ ، و ربما جاء الأمر بالانفاق هنا بهذه المناسبة لانه يمهد سبيل الايمان بالله أمام الانسان ، أوليس حب الدنيا من اسباب الشرك .
[39] ان ما أخذ ربا لا يربوا عند الله ، لان المرابي يسلب من الآخرين اتعابهم و جهودهم ، اما من يؤتي الزكاة بغية وجه الله فاولئك هم المضعفون .
و في الحديث عن النبي (ص) قال :
" كل معروف صدقة الى غني أو فقير ، فتصدقوا و لو بشق تمرة ، و اتقوا النار و لو بشق تمرة ، فان الله عز و جل يربيها لصاحبها كما يربي احدكم فلوه أو فصيله ، حتى يوفيه اياها يوم القيامة ، حتى يكون اعظم من الجبل العظيم " (1)[ و ما ءاتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله ](1) بحار الانوار / ج 96 - ص 122
ان الهدف من المال اقامة النظام الاجتماعي ، وتنشيط اجهزة المجتمع و الانفاق يقوم بهذا الهدف بافضل وجه ، بينما الربا يعوق ذلك ، اذ انه يقيد المال في حدود فوائد الدائن ، و يجعله شريكا ثقيل الظل لاتعاب الناس و جهودهم ، دون ان يتحمل خسارة أو يبذل جهدا .
و الربا ينمي طبقة مستكبرة متعالية و طفيلية في المجتمع ، مما تتجاوز أضراره الجوانب الاقتصادية الى الحياة السياسية فالثقافية و الاجتماعية .
و لعلنا اليوم نعي معاني هذه الآية اكثر من آبائنا ، لان الربا انتشر ليس في حدود ابناء المجتمع الواحد ، بل في مجال العلاقات الاقتصادية بين الأمم المختلفة ، و افرز الواقع المقيت الذي تعاني منه البشرية المتمثل في التمايز بين الدول المستكبرة التي تتأثربكل خيرات الارض و الدول المحرومة التي تحتاج الى أبسط مقومات الحياة ، فبينما تختزن الدول المستكبرة مثلا حوالي (350) مليون طن من الغلال لعام ( 1407 هـ ) ( 1987 م ) و تحتار كيف تختزنها ، بل كيف تتخلص منها نرى الدول المستضعفة محتاجة الى كل كيلو منها ، ويتضور اطفالها جوعا ، و يتساقط الملايين منهم كل عام لسوء التغذية .
و لعل اعظم اسباب هذا التمايز النظام الربوي السائد في العاللم ، حيث بلغت ديون البلاد المحرومة اكثر من كاترليون ( الف مليار ) دولار و (35) مليار دولار أخذت الفوائد المتضاعفة تبتلع كل جهود الشعوب المحرومة ، و تجعل الأمل في تقدمها و استقلالها يتلاشى في طوفان الديون .
و لو دفعت البلاد المتقدمة زكاة اموالها للشعوب المحرومة لنشطت من عقال التخلف ، و للحقت بركب الحضارة و لأفادت حتى الدول الصناعية بتبادل التجارة معها .
و لو استجاب المحرومون لنداء القرآن ، و الغوا الربا في علاقاتهم الاقتصادية ، و تحرروا من أغلال الفوائد الباهضة ( كما اضطرت البرازيل و دول أخرى ان تفعل ذلك أخيرا ) إذن مشوا خطوة في طريق تقدمهم و استقلالهم لذلك قال ربنا سبحانه :
[ و ما ءاتيتم من زكاة تريدون وجه الله ]
اما العطاء الذي يتبعه المن و الأذى فانه مقدمة للطبقية المقيتة ، و لاستثمار البعض للبعض ، و بالتالي لا ينمي الثروة .
كما ان المعونات الاستعمارية للدول المحرومة التي تربط هذه الدول بعجلة الاستكبار هي الاخرى لا تنفع تقدما ، و لا تعطي خيرا .
[ فأولئك هم المضعفون ]
و لعـــل السبب هو ان الزكاة تنشط المجتمع ، و تضع عن اقتصاده اغلال الاستثمار ، و قيود الطبقية ، و يتوجه الجميع تجاه نعم الله المنبسطة في ارجاء الطبيعة ليستفيدوا منها ، دون ان يفكر كل فريق استغلال الآخرين .
|