فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[47] [ و لقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا ]

هذه من آثار رحمة الله ، انه لم يبادر الى انزال العقوبة بعباده فور انحرافهم عن الدين القيم مما يعرضهم للاصطدام بالسنن الالهية . كلا .. و انما انذرهم عبر رسله .

أرأيت لو شاهدت طفلا يلعب على حافة جبل أولست تخشى عليه السقوط ، و تسعى بكل جهدك ان تردعه ؟! كذل رسل الله سعوا من اجل ايقاف سقوطالأمم في وديان الفساد .

و لكن ذلك لا يعني أبدا اكراه الناس - عباده - على الهداية ، بل الذين اجرموا تعـــرضوا لانتقام الرب في النهاية ، أما المؤمنون فكان على الله حقا ان ينصرهم قال تعالى :

[ و كان حقا علينا نصر المؤمنين ]

ورد في الحديث عن رسول الله (ص) انه قال :

" ما من امرء مسلم يرد عن عرض اخيه الا كان حقا على الله ان يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ، ثم قرأ (ص) : " و كان حقا علينا نصر المؤمنين " (1)و نصر الله المؤمنين لا يعني بالضرورة ان يكون مباشرة بيد الله سبحانه ، بل قد يكون نصر المؤمنين عن طريق بعض المؤمنين أنفسهم ، فالله سبحانه يدفع الناس بعضهم ببعض ، و مثل ما يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين كذلك نصر المؤمنين ببعضهم .

[48] [ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ]فالله يرسل الرياح فتكثف السحاب ، و تركمه بعضه على بعض ، و تبسطه في السماء كيف يشاء الله ، و يمطره على من يشاء من عباده .

و الإثارة بمعنى السوق ، و أثار الغبار هيجه ، و البسط قد يقال للبساط من البسط(1) تفسير نور الثقلين / ج 4 - ص 191


و الفرش ، فيفرش الله السحاب في السماء ، كيف يشاء ، حتى إذا أمطر السحاب تناوله أكبر قدر من الارض .

[ و يجعله كسفا ]

متراكما على بعضه قطعة قطعة ، يراها ركاب الطائرات .

[ فترى الودق ]

و لعل المراد منه رذاذ المطر الذي تفرزه قطعات السحاب .

[ يخرج من خلاله ]

من خلال السحب المتراكمة . هكذا يولد الغيث بعد مخاض مرير .

فلولا حركة الرياح و ضغوطها على السحب ، ولولا تراكم السحب و مرورها بتيارات هوائية باردة ، لما أمطرت .

ثم ينتقل الرب من قلب السحب في الفضاء الى تقلبات فؤاد البشر على الارض حيث ينتظر بفارغ الصبر بركات الغيث ، فاذا هطلت السماء طار فرحا .

[ إذا هم يستبشرون ]

لانه يبشرهم برخاء واسع و ثراء عريض .

[49] [ و إن كانوا من قبل ان ينزل عليهم من قبله لمبلسين ]مشكلة الانسان انه عندما تتأخر عنه رحمة الله يكون من القانطين ، أفلا يرى بان الذي خلق السموات و الارض برحمته لا يتركه ؟ بلى . و لكن البشر حين يفقدالتوكل على الله يفقد الأمل في المستقبل .

[50] كيف نزداد بربنا معرفة ، و في رحمته أملا ؟ و كيف نسعى نحو اليقين بقدرته على أحياء الموتى ؟

و الجواب : بالنظر الى آثار رحمة الله ، الى الغيث حين ينزله على الارض الميتة فتستقبله بترحاب و تهتز له و تنبت الزرع ، و إذا بالبسيطة لبست حلة خضراء ، إن النظر الى هذه الآثار تجعل القلب ينفتح لأنوار معرفة الله .

[ فانظر إلى ءاثار رحمت الله ]

و الهدف من النظر ليس مجرد الإذعان بقدرة الله ، بل و ايضا بمعرفة تجليات قدرة الله على الخليقة و السنن التي أجراها الله فيها ، و كيفية اجراء تلك السنن .

[ كيف يحي الأرض بعد موتها ]

و هنالك اذا عرف كيف أحيا الله قد يهتدي الى حقائق اليوم الآخر حيث ان خالق الدنيا هو خالق الآخرة ، و ان قدرته فيهما سواء .

[ إن ذلك لمحي الموتى و هو على كل شيء قدير ]

إن انتقال السحاب من أقصى الارض ليمطر في اقصاها ، تعكس في وجداننا الايمان بالبعث ، و الحياة بعد الموت ، فكما يحيي الله الأرض بالمطر ، كذا يحي الأنفس بعد موتها .

[51] [ و لئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ]هناك فرق بين كلمتين ( ريح ) و ( رياح ) في القرآن الكريم ، فالريح تستخدمفي موارد العذاب ، و الرياح تستخدم في موارد الرحمة و البشارة .

و في الرواية عن رسول الله (ص) انه اذا راى الريح قد هاجت يقول :

" اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا " (1)و اما لماذا سميت الريح بالصفراء ؟

جاء في تفسير البيضاوي : إن الصفراء التي تجعل الارض و الزرع صفراء ، و قد فسرها البعض بانها التي تنذر بالعذاب ، و لا خير فيها ، و جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (ع) انه قال :

" الرياح خمسة ، منها العقيم ، فنعوذ بالله من شرها ، و كان النبي (ص) اذا هبت ريح صفراء أو حمراء و سوداء تغير وجهه و اصفر ، و كان كالخائف الوجل ، حتى ينزل من السماء قطرة من مطر ، فيرجع اليه لونه ، و يقول : " جاءتكم بالرحمة " (2)و عنــدما يرى الانسان الريح مصفرة يكفر بالرب ، و بقدرته على دفع المكروه عنه ، و ينسى بان الله الذي بعث بهذه الريح قادر على أن يبدلها برياح مباركة .

[52] لقد تليت علينا انفا آيات الله ، و لكن ليس كل الناس قادرين على وعيها ، بالرغم من شدة وضوحها ، و نفاذ بلاغتها ، فمن الناس من هو ميت الأحياء قد سدت منافذ قلبه تماما كالجاحدين ، و منهم من فقد السمع و هو يتولى هاربا من الحقائق كمن أخذتهم العزة بالإثم ، و منهم العمي الذي حجب بصره غشاوة .


(1) المصدر / ج 60 - ص 17

(2) المصدر / ص 6


هؤلاء بحاجة الى إصلاح أنفسهم قبل تلقي آيات الله .

[ فإنك لا تسمع الموتى و لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ][53] [ و ما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم ]

و يبــــدو ان السياق يقسم هؤلاء الناس الى ثلاثة أقسام : الميت و الأصم و الأعمى .

و لعل الاول هو الكافر الذي يكون بمثابة الميت ، الذي لا يسمع و لا يرى ، اما الثاني فهو الأصم الذي يمكن ان يفهم بالاشارة ، و لكن بسبب توليه مدبرا لا يسمع ، كما انه لا يرى ، و الثالث الأعمى الذي يمكن ان يسمع و يعي ، و لكنه لا يستطيع ان يطبق ما يسمع لانه أعمى .

و استخدم السمع للميت ، باعتباره آخر ما يفقده الحي ، و استخدم السمع للأصم لان ابرز عيب فيه عدم السماع ، و لم يستخدم السماع للاعمى لانه يسمع ، بل قال : " و ما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم " .

ان السمع الذي هو بداية فهم التجربة و الانتفاع لا يكون الا عند التسليم ، فمن فقد حالة التسليم النفسي للحق لم ينتفع حتى بسمعه .

و كلمة أخيرة :

في درس مضى قرأنا قوله تعالى : " و من آياته ان يرسل الرياح مبشرات و ليذيقكم من رحمته و لتجري الفلك بأمره و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون " و في الآية بعدها يذكر إرسالا آخرا ، و لكن ليس للرياح و إنما للرسل ، فيأتوهمبالبينات : " و لقد أرسلنا من قبلك رسلا الى قومهم فجاؤهم بالبينات " و في الآية بعدها يبسط القول في الرياح فيقول : " الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء و يجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فاذا اصاب به من يشاء منعباده اذا هم يستبشرون ، و ان كانوا من قبله لمبلسين " .

و بعد ذلك يتكلم عن إحياء الارض بعد موتها بالمطر .

و نستوحي من هذا الترتيب :

أولا : ان الله كثيرا ما يربط بين ارسال الرياح و بين ارسال الرسل ، قال تعالى : " و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى اذا اقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فانزلنا به الماء فاخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج الا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ، لقد أرسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره اني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم " (1)و هكذا تكون رسالاته مظهرا لبركاته ، كما الرياح الخيرة .

ثانيا : لقد فسر آل البيت (ع) السحاب بالرسول (ص) و فسروا إحياء الارض بعد موتها بإحياء الارض بأئمة الهدى .

و جاء في بعض الروايات ان ذلك جاء في حق صاحب الأمر القائم (عج) .

فعن ابي جعفر (ع) في قوله تعالى : " اعلموا ان الله يحي الارض بعد موتها "قال :


(1) الاعراف / 57 - 59


" يحييها الله تعالى بالقائم بعد موتها - يعني بموتها كفر أهلها - و الكافر ميت " (1)[ إن تسمع إلا من يؤمن باياتنا فهم مسلمون ]


(1) كمال الدين و تمام النعمة / ص 668

فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس