بينات من الآيات [20] تحيط بالبشر حقائق لو استوعبها وعيه أوتي الحكمة و اهتدى الى السبيل .
و لكن يعيش و يموت أكثر الناس في ضلال . لماذا ؟
لان بينهم و بينها حجب متراكمة ، و إنما القرآن هدى لأنه يثير العقل ، و يرفع الحجب ، فاذا بالقلب المحدود ينفتح على الآفاق الرحيبة .
حقا ما أبعد غور العلم عند المؤمن الذي ينظر الى الخليقة من دون حجاب ، و بفؤاد فارغ من العقد و الأوهام و التمنيات ، فاذا أبصر البدوي الموغل في الصحراء مع سفينته التي يحبها و يرتل لها الاشعار على نغم الحدي فاذا بينه و بين إبله اكثر من مجرد صلة مادية.
هنالك يقول المؤمن : ما شاء الله كيف سخر هذا الحيوان الصبور للبشر ، و جعل أفضل عابر للرمال المتحركة و الصحاري القفر .
و اذا رأى رجلا شجاعا يمتطي ظهر جواده في المعركة ، فاذا بالجواد يستجيب لاشاراته الخاطفة و كأنه جهاز الكتروني حساس ، هنالك يقول : الله اكبر كيف سخر الله لنا هذا الحيوان الذكي ، و ما كنا عليه بقادرين .
و حيـــن يجتاز البشر أعمدة القرون و يمتطي صهوة الطائرات الأسرع من الصوت ، و الصواريخ الفضائية ذات الوقود الذري ، يقول المؤمن بذات النبرة سبحان الله الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين .
ان من سخر لنا الابل و الجواد هو الذي سخر لنا الحديد و الذرة ، و علمنا كيف نصنع من خردة حديد ، و بضع كيلوات من مادة متفجرة صواريخ مدارية .
ان مثل المؤمن مثل الفنان الذي يقف أمام لوحة بارعة الجمال فتغمر قلبه الحساس موجـــات من الاعجاب و الرضا و الانشراح ، بينما الكافر كالاعمى لا تزيده اللوحة إلا ظلاما .
أغلب الناس ينشرحون اذا زاروا لاول مرة مزرعة للورود ، أو حقولا خضراء منبسطة على امتداد البصر ، أو شاهدوا مصنعا عظيما أو انجازا علميا باهرا ، و لكنهم يعودون بعد لحظات محدودة الى واقعهم الاول فتشغل قلوبهم الهموم ، و يغرقون فيبحر المشاكل الحياتية . اليس كذلك ؟
بينما المؤمن يرى كل شيء و كأنه ينظر اليه لأول مرة ، فاحساسه المرهف يجعله أبدا كالقائد العسكري الذي يستعرض جيشه اللجب في يوم عيد ، كذلك المؤمن ينظر الى الطبيعة من حوله و قد سخرت له كما ينظر ذلك القائده الى جنده العظيم ، انه يعيش أبدا كما لو ولد الآن أو جاء من كوكب بعيد ، قلبه بريء ، و نظراته عميقة ، و فطرته نقية .
أرأيت الذي يزور - لاول مرة - حديقة الحيوان في لندن أو معرضا الكترونيا في باريس ، أو مصنعا عظيما في اليابان ، أو ناطحة سحاب في شيكاغو أو مترو موسكو ، أو اهرام مصر ؟
هكذا حال المؤمن أبدا في الحياة بينما غيره يشبه الذي يزور غرفة نومه لا يرى فيها جديدا .
و السؤال : ما الفرق بينهما ؟
الجواب : أولا : قلب المؤمن صاف بينما الناس يعيشون هموما كثيرة ، كما أن أكثرهم يعيش العقد و السلبيات .
ثانيا : المؤمن يعلم ان كل شيء قائم بالله ، و لو لا فضل الله المتوالي ، و عطاءه المستمر ، و تدبيره و سلطانه لما قام شيء ، و لا بقيت نعمة ، و لا دام نظام ، لذلك فهو يتعامل مع الأشياء و كأنها جديدة و مثله في هذا التعامل مثل من يعطيه الملك كل يوم مأةدرهم من دون استحقاق و هو يعيش عليها ، و انه متى ما شاء منعه منه في أي يوم ، فتراه يستلم كل يوم عطاءه بوجد و فرح ، و لعل هذا الاحساس هو مصدر الشكر عند المؤمن فاذا به يسبح ربه بكرة و عشيا ، و في المساء و عند الظهيرة ، لاناستمرار وجوده أساسا عند هذه الساعات نعمة . أوليس هناك البعض الذي عاش صباحا و كان عند المساء تحت التراب ، أو أمسى حيا و لكنه حرم رؤية الشمس في اليوم التالي و الى الأبد .
ان المؤمن يملك من الثقة برحمة الله ما يجعله قادرا على التخطيط المستقبلي ، و لكنه في الوقت ذاته ينظر الى الخليقة نظرة بعيدة عن الجمود و التحجر ، فيخشى زوال النعم في اية لحظة ، و يسعى أبدا لابقائها ، و قلبه بذلك يعيش طريا نظيرا و جديدا ، و هكذا يعيشالمؤمن بين الخوف و الرجاء و كذلك وصى لقمان ابنه قائلا له :
" يا بني ! خف الله عز و جل خوفا لو أتيت القيامة ببر الثقلين خفت ان يعذبك ، و ارج الله رجاء لو وافيت القيامة باثم الثقلين رجوت ان يغفر الله لك "" فقال له ابنه : يا ابة ! كيف اطيق هذا ولي قلب واحد ؟ "" فقال له لقمان : يا بني لو استخرج قلب المؤمن يوجد فيه نوران ، نور للخوف و نور للرجاء ، لو وزنا لما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرة " .
" ثم قال له : يا بني ! لا تركن الى الدنيا ولا تشغل قلبك بها ، فما خلق الله خلقا هو أهون عليه منها ، الا ترى انه لم يجعل نعيمها ثواب المطيعين ، و لم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين ؟! " (1)ثالثا : ترى أغلب الناس يلبسون نظارات مختلفة الألوان ، و ينظرون من خلالها الى الاشياء ، فلا يرونها على حقيقتها . ان الثقافات البشرية و التفسيرات المادية التي تبث الى القلوب هي بمثابة عدسات ملونة لا تدع نور الحقائق يغمر القلب .
(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 199
بينما نظرات المؤمن مباشرة لا تمر بقنوات التفسيرات المادية . انه ينظر ببراءة الطفل الى الحقائق ، و لذلك فان نظراته نافذة الى العمق ، فاذا نظر الى حركة الفلك و ما في السموات و الارض من نعم نفذت بصيرته الى الخالق الذي سخرها للانسان .
و انما يبلغ المؤمن هذه الدرجات بالقرآن . أنظر الى التعبير القرآني هنا و كيف يجعلنا نرى الخليقة بواقعية :
[ ألم تروا ان الله سخر لكم ما في السموات وما في الارض ]انها رؤية مباشرة ، و بلا عقد ، و لا جمود ، و لا نظارات من الثقافات الجاهلية .
ثم يقول :
[ و أسبغ عليكم ]
كما يسبغ المقاتل على نفسه درعه المتناسب مع جسمه ، أو يسبغ الواحد منا ثيابه المقـــدرة له على جسده ، و هكذا النعم تحيط بنا و لكن بقدر و دون زيادة مضرة أو نقصان .
[ نعمه ظاهرة ]
كنعمة الحياة ، و نعمة العافية ، و نعمة الأمن ، و نعمة الطعام .
[ و باطنه ]
كنعمة الاعضاء التي لا ترى ( القلب و الكبد و الكلية و الاعصاب و .. و .. ) و نعمة الوقاية من انواع المكاره و الاخطار ، و نعمة الهداية الى الحق ، و ولاية أئمة الهدى عليهم السلام .
و هناك حديث مفصل يتلو علينا نعم الرب ، و قد رأينا اثباته هنا لأن هذه السورة هـــي سورة الشكر فيما يبدو لنا ، و علينا ان نربي قلوبنا عليه أوليس الشكر أساس الحكمة ؟!
الحديث مأثور عن الامام الباقر (ع) انه قال :
" حدثني عبد الله بن عباس ، و جابر بن عبد الله الانصاري قالوا : أتينا رسول الله (ص) في مسجده في رهط من أصحابه فيهم أبو بكر و أبو عبيدة و عمر و عثمان و عبد الرحمن و رجلان من قراء الصحابة - الى قوله حاكيا عن رسول الله (ص) - و قد أوحى الي ربي جلو تعالى ان أذكركم بالنعمة و أنذركم بما اقتص عليكم من كتابه و أملى " و اسبغ عليكم نعمه " الآية ثم قال لهم : قولوا الآن قولكم ، ما أول نعمة رغبكم الله و بلاكم بها ؟ فخاض القوم جميعا ، فذكروا نعم االله التي أنعم عليهم ، و احسن اليهم بها من المعاش و الرياش و الذرية و الازواج الى سائر ما بلاهم الله عز و جل من أنعمه الظاهرة ، فلما أمسك القوم أقبل رسول الله (ص) على علي (ع) فقال : يا أبا الحسن قل فقد قال اصحابك ، فقال : و كيف بالقول فداك أبي و أمي و انما هدانا الله بك ! قال : و مع ذلك فهات قل ما أول نعمة ابلاك الله عز و جل و انعم عليك بها ؟ قال : ان خلقني جل ثناءه و لم اك شيئا مذكورا ، قال : صدقت ، فما الثانية ؟ قال : ان أحسن بي اذ خلقني فجعلني حيا لا مواتا ، قال : صدقت ، فما الثالثة ؟ قال : ان أنشأني - فله الحمد - في أحسن صورة ، و أعدل تركيب ، قال : صدقت ، فما الرابعة ؟ قال : ان جعلني متفكرا ، راعيا ، لا بلها ساهيا ، قال : صدقت ، فما الخامسة ؟ قال : ان جعل لي سرا عن ادراك (1) ما ابتغيت بها ، و جعل لي سراجا منيرا ، قال :
(1) كذا في النسخ و لا تخلو عن التصحيف و في البحار / ج70 - ص 21 قال : " ان جعل لي شواعر ادرك ما ابتغيت .. " الحديث .
صدقت ، فما السادسة ؟ قال : ان هداني الله لدينه ، و لم يضلني عن سبيله ، قال : صدقت ، فما السابعة ؟ قال : ان جعل لي مردا في حياة لا انقطاع لها ، قال : صدقت ، فما الثامنة ؟ قال : ان جعلني ملكا مالكا لا مملوكا ، قال : صدقت ، فما التاسعة ؟ قال : ان سخر لي سماءه و ارضه و ما فيهما وما بينهما من خلقه ، قال : صدقت ، فما العاشرة ؟ قال : ان جعلنا سبحانه ذكرانا قواما على حلائلنا لا إناثا ، قال : صدقت فما بعدها ؟ قال : كثرت نعم الله يـــا نبي الله فطابت " و ان تعدوا نعمة الله لا تحصوها " فتبسم رسولالله (ص) و قال : ليهنئك الحكمة ليهنئك العلم يا أبا الحسن فأنت وارث علمي و المبين لامتي ما اختلفت فيه من بعدي ، من أحبك لدينك و أخذ بسبيلك فهو ممن هدي الى صراط مستقيم ، و من رغب عن هواك و ابغضك و تخلاك (1) لقى الله يوم القيامة لا خلاق له " (2)
و يبقى سؤال : لماذا سخر الله كل ذلك للانسان ؟ هل بقوته المادية ؟ كلا .. لأن السموات و الارض و الجبال أقوى منه .
أم بقوة سمعه ؟ كلا .. لأن الكلب أفضل سمعا منه .
ام لحدة نظره ؟ فالصقر أحد نظرا منه .
كلا .. ان قوة الانسان التي جعلها الله يسخر بها ما في السموات و الارض ، تكمن في العقل و العلم الذي أنعم به الله عليه ، فلماذا اذن نترك العلم الذي يهدينا الى عبادة الله ، و نتبع الجهل الذي يقودنا الى غيره ؟!
ان الانسان مطالب بتلك الصفة التي جعله الله بها يسير المخلوقات بان يكون سيد العابدين ، إلا ان هناك حجبا تستر عنه نور العقل من بينها :
(1) تخلاه و منه و عنه : تركه
(2) نور الثقلين / ج 4 ، ص 213 - 214
1 - الجدال : و هو من الناحية اللغوية يعني اللف و الدوران ، و في الاصطلاح : هو الكلام بهدف التهرب من الحقيقة ، و المجادل هو الذي يرى الحقيقة و لكنه لا يريد الخضوع لها .
[ و من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ]حتى يبلغ الانسان للحقيقة يجب ان يتبع احد الطرق الثلاث :
أ - ان يتبــع علما كما لو كان يرى مصباحا أمامه ، و هذا هو العلم بالشيء مفصلا .
ب - ان يتبع الهدى و مثال ذلك ان يهتدي لوجود المصباح عبر رؤية النور المنبعث منه ، و هذا ما يسمي بالعلم المجمل .
ج - ان يتبع الكتاب المنير ، و هو معرفة الحقائق بالواسطة ، كما لو أخبر انسان آخر بوجود المصباح في مكان ما ، و كان ذلك الانسان مورد ثقة ، أو أخبره كتاب صدق ، و لأن هؤلاء المجادلين لا يتبعون هذه السبل السليمة فانهم لا يهتدون للحقيقة .
[21] 2 - تقديس الآباء : حيث يترك الانسان الهدى لأنه يتعارض مع اعتقادات آبائه ، و يعالج القرآن هذه العقدة النفسية التي تمنع عن الهدى و ذلك ببيان واقع اتباع الآباء ، و انه ليس بدافع صالح كما يصوره الشيطان ، حيث يوحى الى اوليائه ان تقديس الآباء نوع من الوفاء لهم ، و اداء لحقهم . كلا .. ان اتباعه ليس سوى ضلالة .
[ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ءاباءنا ]و الملاحظ ان الاجيال اللاحقة تتبع الجوانب السلبية في تراث الاولين ، و القرآن يخالف المقاييس الجاهلية في تقييم الأشياء ، لان الانسان الذي يتميز بالعقل ينبغي له ان يتبع المقاييس الصحيحة ، وهي العلم أو الهدى او الكتاب و يستنكر عليهم ذلك قائلا :
[ أولو كان الشيطان يدعوهم الى عذاب السعير ]
فهل تذهب مع الآباء حتى لو كانت طريقتهم تنتهي الى النار ؟
[22] قد يشعر الانسان بنعم الله عليه ، و من ثم يرى نفسه مسؤولا عن أداء الشكر له عليها ، و لكن يقف متسائلا : كيف يمكن لي ذلك ؟ و نجيبه عد الى القرآن و اقرأ :
[ و من يسلم وجهه الى الله وهو محسن ]
بان يخضع له خضوعا مطلقا ، و بكل ما يملكه من الطاقات المادية و المعنوية ، و لكن اي خضوع ذلك الذي تدعو الآية الانسان اليه هل هو الخضوع الذي يدعوه الى السكون و الخمول ؟
بالطبع كلا .. انما تدعو الى ذلك الخضوع المليء بالنشاط و الحركة فصاحبه من جانب يتوجه الى الله بكله ، و من جانب آخر يتفجر إحسانا و عطاء لعباد الله في سبيله .
و اذا وصل الانسان الى هذه الدرجة من الكمال ، بأن تصبح علاقته مع اللهعلاقة تسليم و خضوع ، و مع الناس علاقة إحسان و عطاء .
1- [ فقد استمسك بالعروة الوثقى و الى الله عاقبة الأمور ]فمن جانب يكون هذا الانسان قد تمسك بخط واضح و سليم في الدنيا فحظى بالسعادة ، و من جانب آخر فانه سيرجع الى الله ليجازيه على شكره بتسليمه له و احسانه للعباد .
و لعل تأكيد القرآن في آيات عديدة بان التسليم لله هو التمسك بحبله المتين ، و بالعروة الوثقى يهدف الى علاج عقدة مستعصية عند البشر هي عقدة الخوف من المخلوقات ، هذا الخوف الذ يدفعه نحو الخضوع للمخلوقين و الشرك بالله العظيم ، بينما الرب يؤكد بأن من يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ، و انه لا امان للانسان الا بالتوحيد الخالص .
التسليم لله - في الواقع - لا يتحقق من دون التسليم للقيادة الشرعية المتمثلة في أئمة الهدى ، و الرضا بولاية من أمر الله بولايتهم .
[23] [ و من كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا ]و مادام الأمر كذلك فلماذا يحزن الانسان نفسه ، هل لان الآخرين على خطأ ؟! و اذ ينهى الله عن هذا الحزن فلأن المؤمن لو ادام حزنه على كفر الكفار فلربما يجره هذا الحزن شيئا فشيئا الى طريقهم المنحرف ، فلكي لا يقع المؤمن في خطأ فظيع كهذا يوجهه الله الى ضرورة تجنب الانفعال النفسي كما يفعله الآخرون .
[ إن الله عليم بذات الصدور ]
فلا تخفى عليه خافية ، و انما خصص بالذكر " الصدور " بالذات لأن عمل الانسان يخضع الى مقياسين :
الاول : مقياس ظاهري مثل كثرة العمل و قلته ، و عظمته و حقارته .
الثاني : مقياس باطني ، و هو نية العمل .
و إذا زعم الانسان أنه قادر على خداع الناس بظاهر عمله ، فلا يظن بأنه يخفي عن ربه شيئا و هو العليم بذات الصدور .
[24] بلى . هناك بعض المكاسب الظاهرة لمثل هؤلاء ، و لكنهم هم الخاسرون أخيرا لأن عاقبتهم النار .
[ نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ]
[25] يتلو علينا القرآن عشرة اسماء لربنا الكريم ، و ببلاغة نافذة يستثير الذكر وجدان البشر بذكر الآيات التي تشهد على تلك الأسماء الحسنى .
و لعل مناسبة الحديث عنها التذكرة بمفردات الشكر . أوليس بداية الشكر معرفة المنعم ؟ و كيف نعرف الله أوليس باسمائه ؟!
على ان القرآن ذاته تذكرة بالله ، و يهدف ترسيخ دعائم الايمان في القلب ، بيد انــه بالاضافــة الى هذا الهدف العام هنالك حكمة خاصة وراء كل ذكر لله و لاسمائه و آياته ، تتعلق بالموضوعية الخاصة ، مثلا : هنا يجري الحديث عن الشكر ، و لابد ان يجري حديث عنصاحب النعمة ، لأن الشكر لا معنى له من دون معرفة من نشكره ، و هكذا كل الحقائق تتصل مباشرة بمعرفة الله و أول اسمائه تكشف عن أعظم نعمة علينا و هو الخلق .
[ و لئن سألتهم من خلق السموات و الارض ليقولن الله ]انها الفطرة التي يشترك الناس فيها ، و حتى المشركون يعترفون بان الله خالق كل شيء الا انهم يخشون غيره ، و يشركون به لجهلهم بان الله الفعال لما يريد .
و مادام الجميع يعترفون بأن نعمة الخلق و هي أصل سائر النعم من الله فالحمد كله لله ، و علينا ان نحمده بكل معاني الحمد .
[ قل الحمد لله ]
و لعلنا نستوحي من هذا السياق ان الحمد بداية الشكر ، و أول كلمة في القرآن بعد البسملة هو الحمد ، لقد كان النبيون و الأئمة و الصديقون يفتتحون حديثهم بحمد الله و الثناء عليه .
[ بل أكثرهم لا يعلمون ]
فهــــم يحمدون المربوبين و لا يعلمون ان الحمد كله لله . أوليست النعم جميعا منه ؟! أوليس الناس انما يعملون الحسنات بحوله و قوته ، فان استحقوا حمدا فبما خولهم من نعمه ؟!
و يبقــى السؤال : لماذا يكفرون بالله و هم يزعمون بانه خالق السموات و الارض ؟
ان هذا التناقض نابع من ذات البشر ، و سبحان الله ان يكون مصدرا لهذا التناقض ، فله الحمد في السموات و الارض ، و من له الحمد ليس ناقصا البتة . كلا .. فآياته مبثوثة في الأنفس و الآفاق ، فلا ينكره من ينكر لقلة الآيات ، و لا حجة لهم عليه فقد أركز في افئدتهم معرفته بالفطرة .
بلى . ان جهلهم الذاتي ، و ظلمهم ، و تراكم العقد النفسية على قلوبهم هو مصدر التناقض بين اعترافهم بالخالق و بين عدم شكرهم له .
[26] لان الله هو الخالق فهو المالك و من هو أعظم ملكا ممن خلق و لا يزال يتصرف في خلقه بما يشاء ، دون ان يساله أحد عما يفعل .
[ لله ما في السموات و الارض ]
فهو المالك الحق ، اما الناس فانهم إنما يملكون الشيء بقدر تمليكه وفي حدود منحهم صلاحية التصرف تكوينا و تشريعا .
[ إن الله هو الغني الحميد ]
و من الناس من يملك - بحول الله و قوته - ملكية محدودة فيسيء التصرف فيه فهو غني غير حميد ، بينما الله حميد في غناه لأنه يفعل الخير وما يستوجب الحمد و الشكر .
و المــلاحظ : ان خاتمة الآية تكريس لفكرتها ، كما ان فاتحتها شاهدة على خاتمتها . فان من يملك السموات و الارض هو الغني لأنه المالك لهما ، وهو الحميد لأن كل النعم مصدرها السموات و الارض ظاهرا ، فلنحمد خالقهما بدل ان نحمد من يملك جزء منهما .
[27] و ربنا العزيز المقتدر ، لأنه السلطان القاهر فوق عباده ، المهيمن على حركة السموات و الارض ، و القائم بنظامهما ، و تصدر كلماته النافذة ( كن فيكون ) بما لا تحصى عددا في كل ساعة و لحظة و يهبط قضاءه الحتم في كل حدث صغير أو كبير ، حتى الورقة الواحدة التي تسقط في غابة كثيفة ايام الخريف انما
تسقط بعلم الله و أمره و كلمته ، و ما تزداد الارحام وما تغيظ انما هو بعلم الله و قضائه و امضائه ، و حركة جزئيات الذرة داخل عالمها الصغير العظيم ، و مكونات الخلية المتواضعة و العظيمة ، و خلجات الفكر ، و نبضات الاعصاب و .. و ..
و هذه هي العزة . أوليست العزة هي تجليات القدرة ، و تطبيقات المالكية ؟!
ان التصوير القرآني للعزة الالهية بالغ الروعة ، و رائع البلاغة ، و لعمري ان هذا التصوير ذاته تجل لعزته بما يحمل من شواهد تطبيق القدرة ، و تجليات تحقيق الهيمنة في عالم الكلمة المقروءة .
تدبر في هذه الكلمات و فكر . أليس الأمر كذلك ؟!
[ و لو انما في الارض من شجرة أقلام ]
لا تحضرني الآن احصائية تقريبية لعدد اشجار الأرض المنتشرة في الغابات الكثيفة و الحقول الواسعة في أنحاء الأرض ، و لكن لاريب انها هائلة العدد ، و اذا عرفنا ان الشجرة الواحدة تصبح مئات الألوف مــن الأقلام ، و ان القلم لا يستهلك بسهولة عند الكتابة ، لعرفنا ماذا تعني هذه الاقلام من العدد .
[ و البحر يمده ]
اي تكون بحار الارض التي تتصل ببعضها حتى تصبح بحرا واحدا تغمس فيه تلك الاقلام ثم يكتب ببللة مدادا .
[ من بعده سبعة أبحار ]
و السبعة تعبير عن الكثرة ، و السؤال اذا كانت ثلاثة ارباع الكرة مغطاة بالبحار التي سماها الرب بحرا واحدا فكم هي سعة الابحر السبعة الاخرى ؟!
[ ما نفدت كلمات الله ]
و كيف تنفذ كلمات الله التي لا تحصى ، و التصوير القرآني أهمل ذكر الدفاتر لعله لان أفق تفكيرنا يعجز عن تصور القرطاس الذي يمكنه ان يستوعب ما يمده البحر ، و يكتبه هذا العدد الضخم من الاعداد ، اليس كذلك ؟!
[ ان الله عزيز ]
و كيف لا يكون عزيزا من لا يستوعب ذلك الحشد من الاقلام كلماته ( أو قضاؤه و امضاؤه ) .
و قد ذهب بعض المفسرين الى ان معنى الكلمات العلوم ، و الواقع ان علم الله ليس مما يخضع للاحصاء فانه قديم لا يعزب عنه مثقال ذرة ، و لكن المعلومات هي التي تعد و الكلمات هي المعلومات .
و خاتمة الآية تشهد بالتفسير الذي اخترناه للكلمات .
[ حكيم ]
فعزة الله المتجلية في سلطانه ، و سعة أبعاد قضائه و امضائه تتصف بالحكمة ، حيث انه سبحانه يحكم بالعدل و يقضي بالحق ، و لا يتخذ من لدنه لعبا و لا لهوا ، بل لكل كلمة يلقيها هدف معلوم ، و أجل مسمى .
|