بينات من الآيات [ 1-2 ] [ الم * تنزيل الكتاب لاريب فيه من رب العالمين ]
كلمة الرب توحي بالعطاء المتدرج ( كالتربية ) و الله رب السموات و الارض أي يعطيها كمالا بعد كمال ، و خلقا بعد خلق وكما أشار الله لذلك حين قال : " و السماء بنيناها بأيد و إنا لموسعون " (1) و كيف يعترى الريب كتابا أنزله رب العالمين ، المهيمنعلى خلقهم و تدبير شؤونهم ؟! إن فطرة البشر جبلت على الثقة بالله ، و تزداد هذه الثقة بتنامي معرفتهم بربهم ، لذلك فإن المنهج الصائب لبعث الثقة بالكتاب في النفوس تذكيرهم أولا بالله الذي أنزله ، كما نجده هنا و في سورة الفرقان و غيرهما .
[3] [ أم يقولون افتراه ]
و يرد الله على الكفار بأن القرآن ليس مفترى و ذلك لسببين :
الاول : ان المحور في هذه الدعوة هو الحق ، و ليس ذات الرسول مثلا ، كما يفترض في الدعوات الكاذبة التي هدفها تأكيد مصلحة أنصارها و اصحابها .
[ بل هو الحق من ربك ]
الثاني : ان ما تنتهي إليه هذه الرسالة و هو الهداية دليل على صحتها ، ذلك أن الدعوة الكاذبة لا يمكن ان تنتهي الا الى إضلال الناس .
(1) الذاريات / 47
[ لتنذر قوما ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون ]و الكتاب يهيء الفرصة للهداية ، و لا يحققها بصورة اكراه ، فإن شاء الانسان اهتدى بالكتاب ، و إن شاء جحد .
[4] ثم يذكر السياق بخلق السماوات و الارض الذي تم في ستة أيام ، و لعل سائلا يقول : لماذا في ستة أيام وليس عشرة ؟ الا أن الجواب الفطري على ذلك أنه لو قال القرآن عشرة ايام لقالوا : لماذا لم تكن ستة ؟ و هذا لا ينفي وجود حكمة يعلمها الله تفسر هذا العدد. و مع ذلك فأننا نجد السياق يبين بأن الحساب عند الله يختلف عنه عند الناس إذ يقول : " و إن يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون " ، و عموما فان في الآية اشارة الى حقيقة التكامل في الخلق .
[ الله الذي خلق السموات و الارض وما بينهما في ستة أيام ]يتطور خلالها الخلق يوما بعد آخر .
بالاضافة الى دلالة هذه الآية على نظرية التكامل الاسلامية ، فانها تدل على دور الزمن في واقع الاشياء ، إذ هو جزء منها ، و هذا ما نستوحيه من عدة آيات قرآنية من بينها قوله تعالى : " ما خلقنا السموات و الارض وما بينهما الا بالحق و أجل مسمى "(1) أي و بأجل مسمى ، و لعل الباء المحذوفة هنا هي نفسها التي في كلمة بالحق و تعني الاستعانة .
و إذ خلق الله الخلق لم يتركه سدى كما تدعي ذلك اليهود ، مستوحية من النظريات الفلسفية البائدة ، بل هيمن عليه بتدبيره .
(1) الاحقاف / 3
[ ثم استوى على العرش ]
و هو تعبير عن القدرة و الهيمنة . و مادام الكون خلق بارادة الله ، و يدبر بمشيئتــه فلابد ان نتوجه إليه و نعبده ، لأنه لا أحد يقف دون تنفيذ ارادته ، و اجراء قضائه .
[ مالكم من دونه من ولي و لا شفيع أفلا تذكرون ]
هذه الحقيقة مغروزة في فطرة الانسان ، و آياتها مبثوثة في الخليقة ، و لكن ينساها البشر مما يجعله محتاجا الى التذكرة .
[5] ثم تؤكد الآيات هيمنة الله على الخلق ، و تدبيره له من مراكز أمره في السماء :
[ يدبر الأمر من السماء الى الارض ]
أي يجعله محددا ، و كلمة تدبير مأخوذة من الدبر أي النهاية ، و تدبير الأمور أي معرفة عواقبها ، و ما تؤول إليه .
[ ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره الف سنة مما تعدون ]حينما يتدبر الأمر لا يعني انه انتهى ، بل ان أي عمل يقوم به الانسان يحدده الله ثم ينتهي اليه عندما يكتسبه العبد . و نستوحي من هذه الآية أن كل شيء في هذا الكون لا ينعدم ، فالكون يشبه الشريط السينمائي و هو يتحرك مع الزمن ، و ما نعتقد حدث و انتهى ليس كذلك ، فهو موجود في هذا الشريط ، و يعود يوم القيامة . قال تعالى : " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده " . (1)(1) الانبياء / 104
و الآية هنا صريحة في ان مقدار يوم القيامة الف عام ، بينما نجد في آية اخرى ان مقداره خمسين الف سنة ، لماذا ؟ لعله لأن ساعات يوم النشور خمسون ، و يدبر الله في كل ساعة أمرا ، و ان عروج الأعمال اليه انما يتم في ساعة واحدة منه ، بمثل هذا جاءت رواية مأثورة عن الامام الصادق عليه السلام :
" إن في القيامة خمسين موقفا ، كل موقف مثل الف سنة مما تعدون "ثم تلا (ع) هذه الآية :
" في يوم كان مقداره خمسين الف سنة " (1)[6] و بعد أن تعرفنا الآيات على ربنا ، لتنتهي بنا الى إن القرآن لا ريب فيه ، باعتباره من عنده تعالى ، تؤكد لنا بعض صفاته الحسنى :
[ ذلك عالم الغيب و الشهادة العزيز الرحيم ]
يعلم خفيات الامور و ظواهرها ، فان كان الانسان أحسن في عمله ، جزاه الله برحمته ، و ان أساء عاقبته بعزته ، أو تاب عليه برحمته .
[7] [ الذي أحسن كل شيء خلقه ]
و لعل هذه الآية تشير الى أن كل مخلوق يحس و انطلاقا من وظائفه الحياتية و ظروفه بالكمال في خلقه ، فلو أبدلت أسنان الاسد بأسنان الانسان أو منقار الغراب لما كان صالحا و لا مناسبا ، فكل شيء تجده متناسقا و متكاملا في حدوده ، و بالنسبة الى وسطه و طبيعته.
(1) تفسير نمونه / ج 17 - ص 117
ثم يبدأ الحديث عن خلق الانسان ، و المراحل التي يمر بها ، و دوره الذي يؤديه في الحياة منذ البداية حتى الموت و الى الرجعة .
[ و بدا خلق الانسان من طين ]
[8] [ ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ]
للانسان بدايتان : الاولى عند خلق آدم (ع) و ذريته في صورة ذر ، و لقد تم خلقهم مباشرة من الطين ، و الثانية عند خلق سائر البشر من اصلاب الرجال ، و ذلك من ماء مهين ، يحتقره الانسان و لكنه أساس خلقه ، وفيه انطوى سر حياته .
بلى . من الطين ومن الماء المهين خلق الله هذا البشر السوي ، الذي اضحى خصيما مبينا ، و يتكبر في الأرض بغير الحق . أو لا ينظر الى أصل خلقه المهين فيرعوي عن غيه ؟! قال تعالى : " فلينظر الانسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب و الترائب * إنه على رجعه لقادر " (1)
[9] ثم ان الله بعد أن كون هيكل الانسان الاول وهو آدم و حواء ، نفخ فيهما من روح انتسبت اليه لفرط عظمتها ، ليصبحا بشرا سويا ، حيث يكون الانسان من جسد و روح ، اكراما للانسان في مقابل الماء المهين .
[ ثم سواه و نفخ فيه من روحه ]
ثم أحسن هذا الخلق إذ من عليه بنعمة الحواس و العقل .
[ و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة ]
(1) الطارق / 4 - 7
وكان من واجب البشر أمام هذه النعمة أن يشكروا ربهم و يتبعوا رسالاته ، و لكن غالبيتهم كفروا بأنعم الله .
[ قليلا ما تشكرون ]
و هذا يدل على أن الطبيعة الطينية في الانسان هي التي تغلب عليه في أكثر الاحيان ، و لهذا نجد في القرآن امثال " و قليل من عبادي الشكور " أو " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " .
إن الشكر الحقيقي هو تحسس الانسان بأن النعم من عند الله ، ومن ثم التسليم المطلق له ، و في الحديث عن الامام الصادق (ع) :
" أوحى الله تعالى الى موسى (ع) يا موسى ! اشكرني حق شكري ، فقال : يا رب كيف اشكرك حق شكرك ، و ليس من شكر أشكر به ألا وأنت أنعمت به علي ؟!
فقال : يا موسى شكرتني حق شكري حين علمت ان ذلك مني " (1)[10] و لعل من عوامل كفران النعم الجحود بيوم البعث ، لماذا ؟ لأن النعم عند من يشكرها عبارة عن مسؤوليات ، و شكرها الوفاء بحقوقها ، ومن يجحد القيامة يتهرب عن مسؤولية النعم ، و بالتالي لا يشكرها . بل لعل السبب النفسي لجحود البعث التهرب عن مسؤولية النعم و حقوقها المفروضة علينا .
[ و قالوا ءاذا ضللنا في الارض ]
توزعت اشلاؤنا ، و تناثرت اعضاؤنا .
(1) بح / ج 13 - ص 351
[ ءانا لفي خلق جديد ]
هذا هو ظاهر الاعتراض على دعوة الرسالة ، و لكن الواقع هو التشكيك في قدرة الله سبحانه ، و الكفر بلقاء الله .
[ بل هم بلقاء ربهم كافرون ]
و لعل الآية تشير الى أن الكفار إنما ذكروا هذا الاعتراض جدلا فثم عقدوا العزم على الكفر بلقاء ربهم ، خشية تحمل المسؤولية في الدنيا ، فأخذوا يتشبثون بأدلة جدلية لتبرير كفرهم هذا .
[11] و لكن الله يؤكد أنه هو الذي يدبر شؤون الحياة ، و ليست الصدفة ، و ما دامت الحياة قائمة على تدبير الهي فلماذا التشكيك في يوم المعاد ، و هو مما تقتضيه الحكمة ؟!
و لماذا يستغرب الانسان من فكرة البعث ، و قد خلقه الله ولم يكن شيئا مذكورا ، ثم أنه هو الذي يميته بمشيئته و ليست الصدفة .
[ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم الى ربكم ترجعون ]و لقد وكل الله الملائكة باجراء قضائه بما آتاهم من قوته ، و حسب ما يهبط اليهم من أمره ، دون ان يسبقوه بالقول ، و وكل ببني آدم ملك الموت ليقبض أرواحهم و ليتوفاهم دون نقيصة .
و ملك الموت أعظم زاجر لأبناء آدم الذين لا يمكنهم الفرار منه ، جاء في حديث مأثور عن سيد المرسلين - صلى الله عليه و آله - :
" الأمراض و الأوجاع كلها بريد الموت ، و رسل الموت ، فاذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال : يا أيها العبد ! كم خبر بعد خبر ، و كم رسول بعد رسول ؟ و كم بريد بعد بريد ؟ انا الخبر الذي ليس بعدي خبر " (1)(1) تفسير نمونه / ج 17 - ص 141
|