فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[36] المؤمن حقا هو الذي يسلم لقضاء الله و رسوله تسليما مطلقا في جميع جوانب الحياة ، ذلك أن كلمة الله ، و الرسول ، و القيادة التي تمثل امتدادا صحيحا له ، يجب ان تكون هي الحاسمة في المجتمع الاسلامي .

[ و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا ان يكون لهم الخيرة من أمرهم ]و القرآن حينما يوجه الخطاب بصيغة المذكر فإنه يشمل النصف الآخر للمجتمع بصورة طبيعية ، و لكنه هنا يخص النساء ايضا " ولا مؤمنة " لأن الكثير من الاحكام - و بالذات في باب القضاء - ترتبط بالنساء ، و لابد ان يخضعن كما الرجال لقضاء الله و الرسولخضوعا حقيقيا .

و الخضوع الحقيقي هو الذي تشير اليه الآية الكريمة " فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما " (1) فحتى في المجال الفكري و النفسي لا يجوز للمؤمن ان يتضايق من قضاء الرسول ، بل يجب ان يسلم له راضيا به دون أدنى شك أو تردد .

[ و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا ]

و لعل أهم ما قضى به الله و الرسول ان اختار أهل البيت ، و قضى بطاعتهم ، اذ أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا ، فلا يجوز للمؤمن الاعتراض على هذا القضاء أو الفسوق عمليا عنه ، و هذا مما يعزز تفسير الآية الكريمة (33) في الدرس الماضي .

جاء في أصول الكافي عن عبد العزيز بن مسلم قال : كنا مع الرضا (ع) بمرو فاجتمعنا في الجامع في بدو قدومنا ، فأداروا أمر الإمامة ، و ذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيدي (ع) فأعلمته خوض الناس فيه ، فتبسم (ع) ثم قال :

" يا عبد العزيز ! جهل القوم و خدعوا عن أديانهم ، إن عز وجل لم يقبض نبيه (ص) حتى أكمل له الدين - الى قوله (ع) - : و لقد راموا صعبا ، و قالوا إفكا ، و ضلوا ضلالا بعيدا ، و وقعوا في حيرة اذ تركوا الإمام عن بصيرة ، و زين(1) النساء / 65


لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ، و كانوا مستبصرين ، و رغبوا عن اختيار الله و اختيار رسوله (ص) الى اختيارهم ، و القرآن يناديهم : " و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة من أمرهم سبحان الله و تعالى عما يشركون " و قال عز و جل : " و ما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله و رسوله أمرا ان يكون لهم الخيرة من أمرهم " " (1)[37] و كمثال على قضاء الله في الحقل الاجتماعي ، يستعرض السياق بشيء من التفصيل قصة زيد ابن حارثة ابن شرحبيل ، فهي من المسائل التي كان قضاء الله فيها مخالفا للعرف آنذاك ، و زيد ابن شيخ لقبيلة اسمه حارثة ، أغارت عليها قبيلة أخرى ، فأخذ و بيع في مكة ،فاشتراه الرسول (ص) و الذي كان يسعى حتى قبل بعثته لتصفية آثار الجاهلية قدر ما يستطيع ، و هكذا ينبغي للانسان المؤمن السعي بما يستطيع و كيفما يقدر لازالة آثار الجاهلية " فاتقوا الله ما استطعتم " فالرسول (ص) لم يكن قادرا على شراء كل العبيد و عتقهم أو تربيتهم ، و لكنه اشترى بعضهم .

وفي قصة طويلة جاء والد زيد زائرا لمكة ، و طلب من الرسول ان يشتري ولده ، فجعل الرسول الخيار لزيد في البقاء معه أو الرحيل مع والده - بعد أن اعتقه - فاختار البقاء مع المسلمين و في كنف النبي (ص) .

فعاش كأبرز صحابة الرسول ، وقد أبلى في الاسلام بلاء حسنا ، و كذلك ابنه اسامة ( رضي الله عنهما )[ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه ]


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 279


اذ جعله يعيش تحت ظل رسول الله (ص) .

[ و أنعمت عليه ]

و كان انعام الرسول يتمثل في عتقه لزيد من العبودية ، وقد حدث ان أراد زيد طلاق زوجته زينب بنت جحش فنهره الرسول و قال :

[ أمسك عليك زوجك ]

لا تطلقها .

[ و اتق الله و تخفي في نفسك ما الله مبديه ]

اي ان اللـه كتب زينب زوجة لك ، و مهما أخفيت ذلك فإنه سيظهره يوما من الأيــام .

[ و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه ]

هكذا يحكي الله عن رسوله ، بالرغم من أن آية لاحقة تصف المبلغ للرسالة بأنه لا يخشى إلا الله ، فكيف نؤفق بين الآيتين ؟

الجواب : إن الرسول (ص) لم يكن يخشى أحدا إلا الله ، و لكنه كان يخشى الناس أن يكفروا برسالة ربه لو تزوج بزينب ، بسبب شكهم في أن الرسول ضغط على زيد ( ابنه بالتبني ) ليطلق زوجته ثم يتزوجها بعده ، و هكذا كانت سيرة الانبياء انهم يكلمون الناس على قدر عقولهم ، وفي رواية " ما كلم رسول الله الناس بكنه عقله قط " و هذه الآية تشبه قوله تعالى : " يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك و ان لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس " (1)(1) المائدة / 67


فخشية الرسول من تبليغ بعض بنود الرسالة لم تكن على نفسه ، إنما على الناس ان يكفروا به و بها .

[ فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ]

اي لما تمتع بها زيد فترة من الوقت ثم طلقها زوجها الله رسوله . و كانت زينب تفتخر على سائر زوجات الرسول بأن الله هو الذي زوجه منها و بنص القرآن ، أما الهدف من وراء ذلك فهو كسر العادة الجاهلية ، و رفع الحرج عن المؤمنين في الزواج من مطلقات أبنائهم بالتبني .

[ ولكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهم وطرا ]و لأن البعض ربما يتصور بأن هذا القضاء سوف يفشل بسبب تعارضه مع العرف الاجتماعي ، أكد ربنا بأن امور الحياة بيده و ليست بيد الناس ، و أنه قادر على إجراء ما يريد .

[ و كان أمر الله مفعولا ]

فمع ان بعضا من أمور الحياة خولها الله للانسان ، الا ان مسيرتها العامة بيده ، يفعل ما يشاء ، و لهذا قال الامام علي (ع) :

" عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم ، و حل العقود ، و نقض الهمم " (1)[38] ثم يؤكد القرآن بان القيادة الرسالية ليست هي التي تنسى الدنيا من(1) نهج البلاغة / ص 511 - ج 250


أجل الآخرة ، أو تنسى ضرورات الحياة ، فالرسل - و هم قادة الناس - بشر فرض الله عليهم أن يعيشوا كسائر البشر حياة تجمع العقل و الحاجة ، و لا يمكن لأحد أن يتجاوز هذا الفرض لكونه قائدا ، ثم يدعي بأن ذلك من ضرورات الرسالة ، لأن :

من لا معاش له لا معاد له "

و أئمة المتقين هم الذين يطلبون من الله أن يهبهم أفضل الازواج و البنين ، في الوقت الذين يطلبون أن يجعلهم أئمة للمتقين " ربنا هب لنا من أزواجنا و ذرياتنا قرة أعين و اجعلنا للمتقين أماما " (1)و هذا هو السلوك المتكامل للقيادة ، و الذي يجعلها أسوة للآخرين ، و هو سلوك القادة الرساليين من الأنبياء ، و الاوصياء ، و الاولياء عبر التاريخ ، و هو دليل على نوع الرسالة التي يدعون الناس اليها .

إن الحياة الفاضلة هي التي تدعوا إليها الآية الكريمة : " و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة و لا تنسى نصيبك من الدنيا " (2) ولا يمكن للقائد ان يتضخم فيه جانب على حساب الجانب الآخر ، لأن الناس آنئذ لن يتبعوا هذه القيادة ، لأن التمتع بالدنيا كما التطلع للآخرة قضية يقرها العقل البشري .

إذن لا داعي للحرج ، و ذلك لاسباب هي :

أولا : ان زواجه من زينب واجب مفروض عليه من قبل الله ، كما أنه من نفع الرسول لذلك جاء التعبير بـ " له " و ليس عليه .


(1) الفرقان / 74

(2) القصص / 77


[ ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ]

ثانيا : ان التمتع بالدينا الى جانب السعي للآخرة ليس جديدا على الانبياء و القيادات الرسالية ، إنما هو سنة جرت بها الحياة .

[ سنة الله في الذين خلوا من قبل ]

ثالثا : لابد ان نعتقد - نحن المؤمنين - بأن أوامر الله حكيمة و دقيقة ، و هذا يبعثنا نحو التسليم لقضائه ، و هكذا كان واجبا على الرسول الخضوع لفرض الله عليه . و نهايات الآيات التي هي مفاتيح لمعرفة إطارها العام ، تهدينا الى حكمة الله وانه جعل كل شيء بقدر و حساب ، و لو أن الرسول ترك متع الدنيا التي فرضها الله له ، باعتقاد أن الآخرة هي الأهم ، لخرجت حياته من التوازن ، فلابد أن يستجيب لأوامر الله ، فالدين ليس شيئا يصنعه الانسان بفكره البسيط ، إنما يجب ان يتبعه كما هو ، و في الحديث :

" إن الله يحب أن يؤخذ برخصه ( المباحات ) كما يحب أن يؤخذ بعزائمه ( الواجبات ) " (1)و حينما أقسم عثمان بن مظعون أن يصوم الدهر نهره الرسول ، و قال له :

" و لكن صم يوما و أفطر يوما "

[ و كان أمر الله قدرا مقدورا ]

[39] ثم إن صاحب الرسالة و الذي يريد ان يكون مبلغا لها بين الناس ، يجب ان يضع في حسابه معارضة الناس له و لرسالته ، و بالتالي عليه ان يتجاوزهم و لا(1) مستدرك وسائل الشيعة / ج 1 - ص 18


يخشاهم ، فيدع ما فرض الله له ، أو يترك واجبا من واجباته خوفا منهم ، كما يجب عليه ان يتوقع الضغط عليه من قبل الآخرين ، و من ثم يستعد لمواجهة هذه الضغوط التي أهونها الدعايات السيئة و العزلة من قبل المجتمع أو السجن و التعذيب أو التهجير من قبل السلطات الفاسدة ، لأن الاستقامة أمام ذلك سوف تنتهي به في الدنيا الى أهدافه و هي الهداية و التغيير ، و في الآخرة إلى روضات الجنات .

[ الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ]اما من أين يستمد الانسان الرسالي روح الاستقامة ؟ انما من خشية الله التي يقاوم بها ارهاب الناس و ضغوطهم ، و ايضا من التوكل عليه الذي يجبر به ضعفه ، و أهم معاني التوكل على الله - و الذي هو من جوانب العظمة في الانسان الرسالي - العمل لله و تحمل كل شيءفي سبيله ، ثم احتسابه عنده ، فهذا يزيده استقامة و مضيا على طريق الرسالة ، و الإمام الحسين (ع) حينما ذبح سهم حرملة ولده علي الأصغر تقوى على المصاب عندما أعتبره طريقة لرضى الله قال :

" هون علي ما نزل بي انه بعين الله "

[ و كفى بالله حسيبا ]

فالمؤمن الحقيقي لا يبحث عن مصالحه و لذاته من الرسالة ، بل يبحث عن طرق تحقيقها حتى لو كلفه ذلك الكثير ، بلى . مستعد لتبليغها ، ولو خسر سمعته و مكانته الاجتماعية و السياسية و غيرها .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس