بينات من الآيات [63] [ يسئلك الناس عن الساعة ]
تقف وراء هذا السؤال فكرتان :
الأولى : استبعاد الانسان بطبعه للجزاء ، بالتسويف تارة ، و بطول الأمل أخرى ، فاذا بالشباب يتصور الموت بعيد عنه ، و الشيخ يطول أمله بالبقاء اضعاف عمره ، و ربما مات الواحد بعد هذه التصورات بلحظة ، فقامت قيامته (1) و ما دام الأمر كذلك ، و الانسان يجهللحظة موته ، فعليه ان لا يغتر بنفسه ، و بماله ، و عشيرته ، لانهم لا يغنـــون عنه شيئا يوم القيامة ، ولا يدفعون عنه الموت في الدنيا ، يقول أمير المؤمنين (ع) :
" فاتقى عبد ربه ، نصح نفسه ، و قدم توبته ، و غلب شهوته ، فإن أجله مستور عنه ، و أمله خادع له ، و الشيطان موكل به ، يزين له المعصية ليركبها ، و يمنيه التوبة ليسوفها ، إذا هجمت منيته عليه أغفل ما يكون عنها ، فيالها حسرة على كل ذي غفلة ، ان يكونعمره عليه حجة ، و ان تؤديه أيامه الى الشقوة " (2)و اسباب الموت كثيرة جدا ، و مهما أبعدت اسبابا منها عنك فان غيرها يلزمك و لأنه سنة جارية على الخلق .
الثانية : الزعم الخاطئ بان على القيادة ان تعرف كل شيء ، و كأنها المسؤول(1) اشارة للحديث الشريف : " اذا مات أبن آدم قامت قيامته "(2) نهج البلاغة / خ 64 - ص 95
المباشر عن كل جزء من الدعوة ، و الواقع أنها تنتهي مسؤوليتها بإبلاغ الرسالة لتبدأ مسؤولية الناس ، أما متى تكون الساعة ، فليست الإجابة على ذلك من ضروريات القيادة ولا من مسؤولياتها ، ذلك انه يكفي للانسان العلم بحصولها لكي تبدأ مسؤوليته تجاهها ، كما يكفيالرسول و القائد مسؤولية بيان ذلك للناس ، ثم إن علم الساعة مما يختص به الله عز و جل .
[ قل إنما علمها عند الله و ما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ]و لعل : تفيد الترجي ، مما يدل على كفاية الاحتمال بقرب الساعــة موعظة للإنسان ، حتى يعمل بما يقتضيه هذا العلم ، ايمانا و عملا و تسليما للقيادة .
[64] و لكن الكافرين يبحثون عن مبرر لكفرهم بالساعة ، مهما كان سخيفا و خارجا عن حدود الموضوعية ، و لكن هل يدفع ذلك العذاب عنهم ؟ كلا .. فقد أبعدهم الله عن رحمته ، و أعد لهم سعيرا .
[ إن الله لعن الكافرين و أعد لهم سعيرا ]
و لنستمع شيئا عن هذا السعير ، فقد جاء في تفسير علي بن ابراهيم عن ابي بصير (رض) قال : قلت لابي عبد الله (ع) : يابن رسول الله خوفني فان قلبي قد قسى ، قال :
" يا محمد ! استعد للحياة الطويلة ، فان جبرئيل جاء الى النبي - صلى الله عليه و آله - وهو قاطب ، وقد كان قبل ذلك يجيء و هو مبتسم ، فقال رسول الله (ص) : يا جبرئيل ! جئتني اليوم قاطبا ؟! فقال : يا محمد ! قد وضعت منافخ النار ، فقال وما منافخ الناريا جبرئيل ؟ فقال : يا محمد ! ان الله عز و جل أمر بالنار فنفخ عليها الف عام حتى ابيضت ، ثم نفخ عليها الف عام حتى احمرت ،ثم نفخ عليها الف عام حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة ، لو أن قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها ، و لو ان حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدنيا لذابت من حرها ، ولو ان سربالا من سرابيل أهل النار علق بين السماءو الارض لمات أهل الدنيا من ريحه "
الى ان يقول الامام (ع) :
" فما رأى رسول الله (ص) جبرئيل مبتسما بعد ذلك " (1)[65] و أعظم ما في العذاب الذي ينال الكافرين ، خلودهم الأبدي فيه ، بين الموت و الحياة " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " (2)ثم ان علاقاتهم السلبية بالقيادات المنحرفة من الطواغيت و اصحاب المال و الوجاهة لن تنفعهم ، لأن الذي ينفع هنالك علاقة الانسان بربه ، و بالقيادة الرسالية التي يرتضيها .
[ خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا ]
[66] و من صور العذاب الظاهر لهؤلاء في جهنم تقليب وجوههم فيها .
[ يوم تقلب وجوههم في النار ]
و لهذه معنيان : الأول : ان تقليب الوجه هو تبدله من حال الى حال ، و من صورة الى أخرى ، و الثاني : هو أنها تقلب في النار على كل جانب لكي تنالها من جميع الجهات ، كما يقلب اللحم في الافران لتنضجه من جميع نواحيه .
(1) تسلية الفؤاد / ص 240
(2) النساء / 56
و عند مشاهدة هذه الألوان من العذاب يتمنى الكفار و المنافقون لو انهم استجابوا لله و اطاعوا الرسول ، و انى ينفع الكلام في دار الجزاء ، و قد اضاعوا على أنفسهم فرصة العمل في الحياة الدنيا ؟!
[ يقولون ياليتنا أطعنا الله و أطعنا الرسولا ]
بينما كانوا يعتذورن عن الاستجابة للحق ، و التسليم لقيادة الرسول في الدنيا ، و هذا مما يدل على ارتفاع الحجب و التبريرات يوم القيامة ، و أن تبريرهم لكفرهم بأنهم لا يعلمون بميعاد الساعة إنما كان للتملص من مسؤولية الإيمان و الطاعة لا أكثر .
[67] و مما يقدمه أهل النار لتبرير كفرهم بالقيادة الرسالية أنهم انخدعوا بالقيادات الضالة ، و وقعوا تحت تأثيرها . و كل ذلك مرفوض عند الله ، لأن الانسان متصرف و عاقل ، و ليس آلة جامدة تحركها الأيدي كيف تشاء ، فهو اذن مسؤول عن قراراته و أعماله و سلوكياته ، و قد حمله الله هذه المسؤولية التي رفض حملها كل الخلائق ، و اذا ضيعها فانما بجهله و ظلمه ، و من يقول : ان الأوامر تأتي من فوق ، أو انني جندي مأمور لا ترتفع عنه المسؤولية .
[ و قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا و كبراءنا فأضلونا السبيلا ]السادة : فهم كالحاكم و القائد السياسي ، و العسكري ، أو النظام الاقتصادي ، و سائر الجهات التي يعود عصيانها بالاذى على الناس ، اما الكبراء فهم أصحاب الوجاهة الاجتماعية ، أو الاقتصادية ، و عموم الجهات التي يتبعها الانسان لمصلحة معينة بإرادته المجردةو ليس للخوف منها ، و كان من الحري بهم الطاعة لله و لرسوله ، خوفا من عذاب الله ، و رغبة في ثوابه و رضاه .
و نستـــوحي من هذه الآية بالاضافة الى سابقتها : ان السبيل يعني القيادة الرسالية ، ذلك ان القيادات المنحرفة ليس تضل الانسان عن المنهج السليم و حسب ، بل و تضله عن القيادة الصالحة .
قال أمير المؤمنين (ع) في خطبة له يوم الغدير :
" و تقربوا الى الله بتوحيده ، و طاعة من أمركم أن تطيعوه ، و لا تمسكوا بعصم الكوافر ، ولا يخلج بكم الغي فتضلوا عن سبيل الرشاد باتباع اولئك الذين ضلوا و اضلوا ، قال - عز من قائل - في طائفة ذكرهم بالذم في كتابه : " انا أطعنا سادتنا و كبراءنا فاضلونا السبيلا " " (1)
و قال علي بن ابراهيم في تفسيره : " فاضلونا السبيلا " اي طريق الجنة ، و السبيل امير المؤمنين صلوات الله عليه . (2)[68] و عادة ما يبحث المضللون عن أعذار ترفع عنهم مسؤولية الانحراف ، و تلقيها على كاهل السادة و الكبراء منهم ، و قد يستطيعون خداع الناس في الدنيا بسببها ، ولكن انى لهم خداع الله ؟!
[ ربنا ءاتهم ]
السادة و الكبراء .
[ ضعفين من العذاب و العنهم لعنا كبيرا ]
و الله سوف يعذب هؤلاء ضعف الآخرين و اكثر ، الا ان ذلك لن يرفع عن(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 308
(2) المصدر و الصفحة .
اولئــك العــذاب ، انما سيمكثون في السعير " خالدين فيها أبدا لا يجدون فيها وليا ولا نصيرا " .
[69] ثم يحذر الله المؤمنين مباشرة بعد تحذيرهم الضمني بالتعرض الى حال المضللين في الآخرة من الصبر الذي انتهى اليه أولئك باتباعهم القيادات المضلة فهي دوما تسعى لإشاعة الافكار الخاطئة ، و الاراجيف و الدعايات الباطلة حول قيادة الحق لفض الناس من حولها، و جرهم نحوهم عن طريق الاعلام .
يقولون : لا تنصاعوا لهذه القيادة فانها تورطكم ، و تعرضكم للسجن و القتل و التشريد .
[ يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ]ما تثيره القيادات المضلة من شائعات حول القيادة الرسالية سوف تنفضح ، لأن حكمة الله و بالتالي قوانين الحياة و سننها قائمة على نصرة الحق و أهله .
[ و كان عند الله وجيها ]
[70] و لان الشائعات الباطلة قد تتلاقفها الألسن دعى الله المؤمنين الى الكلمة الصالحة ، و الى تحمل مسؤولية الكلام ، ولا يتم ذلك إلا بالتفكير و الإستقراء المنطقي ، و قبل ذلك كله بتقوى الله ، ذلك ان التقوى تصنع في النفس نوعا من الرقابة الذاتية و المحاسبة ، فالمتقي يخشى من اتهام الآخرين ، و من المشي بالغيبة و النميمة ، و هذه الأمور من مقومات الاعلام المنحرف ، و الشائعات .
[ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا ]و لا يكون القول سديدا حتى يكون سليما ، وفي وقته المناسب ، ولا يكون كذلك الا بالتفكير و النظر الى الواقع و المستقبل . و الذي يميز المؤمن عن المنافق ان المؤمن يتحمل مسؤولية كلامه ، فهو يفكر كثيرا قبل الكلام ، بينما المنافق يبادر بالحديث دون رؤية فيبتلى بكلام ، و في الحديث :
" و ان لسان المؤمن من وراء قلبه ، و ان قلب المنافق من وراء لسانه " (1)ولو تكلم المؤمن بكلام ثم اكتشف أنه كان خطا اعترف بالخطأ ، و تراجع عن موقفه و كلامه ، اما المنافق فتأخذه العزة بالإثم .
قال ابو عبد الله (ع) لعباد بن كثير البصري الصوفي :
" ويحك يا عباد ! غرك ان عف بطنك و فرجك ! إن الله - عز و جل - يقول في كتابه : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم اعمالكم " اعلم انه لا يقبل الله عز و جل منك شيئا حتى تقول قولا سديدا " (2)و قال رسول الله (ص) وقد سأله احدهم : وهل يحاسبنا ربنا على ما نقول ؟! قال :
" وهل يكب الناس في النار الا حصائد ألسنتهم ؟! " (3)[71] و لكي يكون كلامنا سديدا يجب ان نبتعد عن التبرير ، و الكذب و النميمة ، و الغيبة ، و التهمة ، و كل آفات اللسان ، و هذا ينعكس مباشرة على سلوكنا ، و سلامة تحركنا في الحياة .
(1) نهج البلاغة / خ 176 - ص 253
(2) نور الثقلين / ج 4 -ص 309
(3) بحار الأنوار / ج 77 -ص 90
[ يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ]
وفي الحديث عن الامام الصادق (ع) :
" ان الله جعل للشر أقفالا ، و جعل مفاتيح تلك الاقفال الشراب ، و شر من الشراب الكذب " (1)[ و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما ]
و السؤال : ماهي العلاقة بين صلاح الأعمال و الطاعة لله و للرسول ؟
من خلال السياق القرآني نكتشف ان الكلام السديد هو الكلم الحق الطيب و الذي يدعم التسليم لله و لرسوله .
[72] و التسليم للقيادة هو الامانة ، وهو من أبرز تجليات الإرادة البشرية .
[ إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين ان يحملنها و اشفقن منها ]و لكن الانسان تحملها ، و بظلمه و جهله الذين ارتكز فيهما يخون هذه الامانة .
[ و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ]
الظلوم صيغة المبالغة من الظلم ، و الجهولة صيغة المبالغة من الجهل ، و هذا يشير الى انهما صفتان مغروزتان في الانسان ، و هما من طبيعته العدمية الضعيفة ، و هو يستطيع التغلب على هاتين الطبيعتين عن طريق العمل الصادق ، و الوعي الدائم ،(1) وسائل الشيعة / ج 17 - ص 263
و بالتالي عن طريق اتصاله برسالة الله و تسليمه له ولأوليائه ، من الرسل و الأئمة و القيادات الصالحة .
[73] و هذا هو أبرز مصاديق تحمل الأمانة ، التي يتحدد مصير الانسان حسب موقفه منها ، فمن يخونها - وهم المنافقون و الكفار - يصير الى الجحود و العذاب ، و من يرعاها و يحفظها يصير الى التوبة و الثواب .
[ ليعذب الله المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات ]على خيانتهم و رغبتهم عن التسليم .
[ و يتوب الله على المؤمنين و المؤمنات ]
لان المؤمن الحقيقي حينما يقع في الذنب بسبب الغفلة أو الجهل سرعان ما ينتبه لخطئه ، فيعود الى مسيرته المستقيمة ، فيتوب الله عليه .
[ و كان الله غفورا رحيما ]
و الطـــريف هنـا ان تنتهي هذه السورة - التي اشتملت على آيات العذاب و العقاب - بالاشارة الى غفران الله و رحمته ، مما يعمق فينا - نحن البشر - الملفوفين بالظلم و الجهل الأمل بربنا عز وجل .
|