بينات من الآيات [7] [ و قال الذين كفروا ]
و هم يستهزؤون ، و يحاولون الانتقاص من الرسول و الرسالة .
[ هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق ]
أي تفرقت أعضاؤكم ، و تمزقت بددا .
[ إنكم لفي خلق جديد ]
[8] ثم يتساءلون بحيرتهم .
[ افترى على الله كذبا ]
هل ما يدعيه افتراء على الله ؟! ثم عادوا الى وجدانهم فعرفوا أن الرسول لا يمكن ان يفتري على ربه الكذب ، و هو الصادق الأمين ، و قد بين بوضوح العقاب الذي ينتظر الذين يفترون على الله الكذب ، ثم إنه أول المصدقين بالبعث ، و العاملين بما يستوجبه هذا التصديق . ألا يرون كيف يكاد يشقي نفسه بالعبادة حتى نزلت عليه الآية : " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " ؟! لذلك تراهم عادوا و أكدوا انه ليس مفتريا ، ثم إنهم بكفرهم قالوا فيه قولا كبيرا ، لأنهم كانوا من المعاجزين الذين يعملون بجهدهم على مقاومة القرآن ، قالوا :
[أم به جنة ]
و هي الجنون ، و يجيب القرآن على هذه التساؤلات بأن المشكلة ليست في الحقائق التي يبينهـــا الرسول ، ولا في اسلوبه ، حتى يتهم بالكذب تارة ، و بالجنون أخرى ، إنما المشكلة في الكفار أنفسهم ، و مشكلتهم هي ضيق الأفق فلا يستوعبون النشور بعد الموت ، و السبب كفرهم و عدم اتباعهم المنهج السليم الذي يقودهم إلى الحقائق .
[ بل الذين لا يؤمنون بالأخرة في العذاب و الضلال البعيد ]قالوا : إن العذاب هنا يقابل افتراءهم على رسولهم بالكذب ، بينما الضلال يقابل نسبة الجنون عليه . (1)(1) الرازي - التفسير الكبير .
و يبدو لي أن السياق يؤكد على أن السبب في كفر هؤلاء بالرسول يكمن في كفرهم بالآخرة الذي يجعلهم يواجهون الحقائق دائما فيعيشون العذاب . أرأيت كيف يعاني من يعارض حكومة قاهرة ، كيف يحيط به العذاب ، كذلك الذين لا يؤمنون بالآخرة يضطرون مخالفة حقائق الخليقة .
و من جهة ثانية أنهم يعيشون في حالة من الضلال البعيد جدا عن الهدى ، و آية ذلك أنهم ينسبون من يهيديهم الى الحقائق والى سبيل سعادتهم الى الجنون ، فهل تترقب لمثل هؤلاء هدى ؟
و نستوحي من الآية انه لا يضل الانسان عن أهدافه و عن الحقائق ، إلا عندما يكـــون الطريق الذي يختاره خاطئا ، و هؤلاء حين كفروا بالبعث وقعوا في الإنحراف الكبيــر .
[9] و حتى يتسع أفقهم ، و يهتدوا لصحة الحقائق ، و ما يقوله الرسول ، يدعوهم القرآن للنظر في آيات الكون العظيمة و التفكر فيها ، لأنها علامات و شواهد على قدرة الله . كما أنه ينذرهم بأن استرسالهم في الضلالة قد يعرضهم لعذاب شامل من نوع عذاب القرون الغابرة ، كان يخسف الله بهم الارض أو يسقط عليهم من السماء شهبا .
[ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء و الأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء ]و يبين لنا ربنا حقيقة هامة هي : إن الكون المحيط بنا قائم بالله ، و تهيمن عليه و تدبر شؤونه قدرته القاهرة ، كما تشير الآية الى بعض الحقائق العلمية ، فقد جعل الله الارض في موقع معين ، و ضمن نظام دقيق بحيث تحافظ على اتزانها ، و تمكنالخلق من العيش عليها ، و أنشأ حجابا واقيا بين الأرض و السماء ، هو الغلاف الجوي الذي يمنع سقوط النيازك و الشهب من السماء على الارض .
ولكن من الذي يكشف هذا النظام المحكم وما وراءه من عظمة الرب ؟
[ إن في ذلك لاية لكل عبد منيب ]
إن الآيات وحدها لا تهدي الانسان الى الحقيقة كلها ، فقد يؤمن بها و يتبعها الفرد فتأخذ بيده الى الهدف ، و قد يراها و لكنه يكفربخلفياتها وما تشير اليه فلا تنفعه ، و القرآن يقول بأن الآيات المبثوثة في الكون تهدي الى الحقيقة ، و لكن على شرط ان يكون المتفكر فيها عبدا مسلما لله ، فالعبودية و الإنابة اذن شرطان للاستفادة من الآيات .
إن من مشاكل الانسان انه حينما يسير في ركاب العلم ، و تنكشف له الحقائق ، و تتضح أمامـــه الألغاز المهمة في الحياة ، فإنه لا ينظر الى خلفياتها إنما ينظر اليها بذاتها ، فهو حينما يكتشف مكونات الذرة وهي النواة و الإلكترون و البروتون ، ثم يجد أن كل عناصر الحياة المادية و مكوناتها ، تعتمد على نفس النظام وهو الذرة ، مع اختلاف التركيب ، لا يهتدي من خلال ذلك الى حقيقة التوحيد ، و ان اليد التي خلقت الذرة هي التي خلقت المجرة .
و فكرة أخيرة نستوحيها من الآية الكريمة هي : إننا عندما نتعمق في فهمنا للآية نجد أن القرآن يربط بين فهم الحياة و تزكية النفس ، فكأن الذين لا يتصفون بالإنابة الى ربهم لا يفهمون الحياة فهما حقيقيا .
[10] و كما أن لاسماء الله تجليات في الطبيعة ، فإن لها تجليات أخرى في تاريخ البشر ، و لعل هذه هي علاقة السياق بين الحديث عن الطبيعة و بيان جانبمن قصة داود و سليمان عليهما السلام .
و هناك صلة أخرى بين الموضوعين في السياق هي : إن الآية السابقة تنذر الكفار بينما تبشر هذه الآية المؤمنين من خلال قصة داود الذي آتاه ربنا فضلا حين أناب إليه .
[ و لقد ءاتينا داود منا فضلا ]
و هذا الفضل مظهر لاسم الحمد الإلهي ، حيث خص الله نبيه داود بأمور من دون الآخرين ، و كانت هذه الأمور من أركان و خصائص الحضارة التي بناها (ع) .
قال تعالى :
[ يا جبال أوبي معه و الطير ]
فكلاهما كان خاضعا لداود ، و سخر له .
[ و ألنا له الحديد ]
و كان لتسخير الحديد هدف يشير له القرآن في الآية اللاحقة :
[11] [ أن اعمل سابغات وقدر في السرد ]
لقد أمر الله داود (ع) بصناعة الدروع السابغة ( أي الواسعة ) حتى يلبسها المقاتل من غير تعب ، كما أمره بالاتقان في حياكتها ، حتى تكون حلقاتها منتظمة و متساوية تؤدي كل واحدة دورها المحدد ،و لعل الآية تشير إلى ضرورة الإتقان في العمل ، ولا سيما في الصناعة ، و لكن الصناعة المتقنة كأي تقدم حضاري أخر يجب أن تكون بهدف حكيم هو العمل الصالح .
[ و اعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ]
و نستوحي من الآية أن الله الذي سخر لداود كل هذه الأمور ، لم يرتض منه أن تكون بديلا عن السعي و العمل الشخصي ، لأن قيمة الانسان تكمن في سعيه و عمله .
و في الحديث أن أمير المؤمنين (ع) قال :
" أوحــــى الله عز وجل الى داود (ع) انك نعم العبد ، لو لا انك تأكل من بيت المال ، ولا تعمل بيدك شيئا ، قال : فبكى داود (ع) أربعين صباحا ، فأوحى الله عز وجل إلى الحديد أن لن لعبدي داود ، فألان الله عز وجل له الحديد ، فكان يعمل في كل يوم درعا فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمائة و ستين درعا ، فباعها بثلاثمائة و ستين الف و استغنى عن بيت المال " (1)كما نستوحي أن شكر نعم الله و حمده عليها يكون بالإستفادة منها في سبيل الخير و الصلاح .
[12] ثم يضرب الله لنا مثلا آخر من حياة نبيه سليمان (ع) فيقول :
[ و لسليمان الريح غدوها شهر و رواحها شهر ]
قال علي بن ابراهيم : " كانت الريح تحمل كرسي سليمان فتسير به في الغداة مسيرة شهر و بالعشي مسيرة شهر " (2)و اذا عرفنا ان مسيرة الشهر تضاهي (720) كيلو متر نعرف ان السرعة تقترب(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 318
(2) المصدر / ص 318
من سرعة الطائرة اليوم خلال الساعة الواحدة .
[ و أسلنا له عين القطر ]
يعني الرصاص و النحاس .
[ و من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ]و تدلنا هذه الآية على أمرين :
الأول : إن الجن ليسوا كما تزعم الأساطير أقوى من البشر ، بل الإنسان قادر على تسخيرهم بإذن الله .
الثاني : إنه يمكن للانسان أن يبلغ من التطور و التكامل الصناعي و المعنوي الى درجة يسخر الارواح - كالجن - في صالحه .
[13] و يبين لنا الله جانبا من أدوار الجن في حضارة سليمان (ع) اذ يقول :
[ يعملون له ما يشاء من محاريب ]
و هي أماكن الصلاة التي تتقدم بيت العبادة .
[ و تماثيل ]
أي المجسمات التي تماثل الخلق الطبيعي في ظاهرها .
[ و جفان كالجواب ]
و الجفان الأواني التي يقدم فيها الطعام ، وقد وصفها الله لعظمتها و سعتها بالحفـــر أو الأحواض ، لأن سليمان ما كان يقدر على إطعام جيشه في أوان صغيرة لكثرتهم . (1)[ و قدور راسيات ]
و الراسية هي الثابتة ، مما يدل على ان لسليمان قدورا ثابتة ، و أخرى متحركة كان يحتاجها عند حركته و تنقله .
[ اعملوا ءال داوود شكرا و قليل من عبادي الشكور ]
إن أهم عبرة في هذه الآيات الكريمة هي ضرورة الشكر العملي ، فقبل أن يكون بيد الانسان الفضل و الخير الالهي ربما يكون مقبولا منه الشكر القولي وحده ، أما بعده فيجب ان يتحول هذا الشكر الى برنامج عملي و نعني بذلك ثلاثة أمور :
الاول : العمل الصالح ، كما قال ربنا لنبيه داود : " و اعملوا صالحا " فعلى سبيل المثال يكون الشكر العملي للمال الانفاق في سبيل الله ، و التصدق على الفقراء ، و إقامة المشاريع الاسلامية ، و بالتالي استخدام هذه النعمة في أهدافها المحددة .
الثاني : الإبقاء و المحافظة على العوامل التي سببت الفضل و النعمة ، فالعالم إنما أصبح عالما بسبب الدراسة و القراءة و التفكير و العمل ، فشكر العلم هو المحافظة على هذه العوامل ، لأنها تحفظ العلم و تزيده .
الثالث : الوصول بالنعمة الى غايتها و هدفها ، و هدف كل شيء في الحياة(1) راجع المجمع في تفسير الآية .
وسيلة لهدف أكبر حتى يتصل الانسان بهدفه الأعظم وهو الطاعة و التسليم لله ، فالمجاهد يقرأ حتى يتكلم ، و يتكلم مع الناس لكي يهديهم ، و يهديهم حتى نتكون مجموعة رسالية ، و تتكون هذه المجموعة من أجل العمل السياسي و العسكري و الثقافي الشامل ، و ذلك يهدف إسقاطالنظام الطاغوتي الفاسد ، لكي يقوم بدله حكم الله ، الذي يدافع عن المستضعفين ، و من ثم يقيم حضارة إسلامية متكاملة ، و هكذا .. فالشكر العملي إذن أن ترقى من هدف لآخر أسمى منه .
|