فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


صورتان لحضارتين
هدى من الآيات

يبدو أن سورة سبأ تتمحور حول علاقة الانسان بالحضارة ، حيث تعرض آياتها نموذجين منها ، يتمثل الأول في قصة آل داود الذين اتخذوا الملك وسيلة لعمارة الأرض ، و اصلاح الناس ، و شكر الله ، و يتمثل الثاني في قصة سبا و قرى أخرى ، حيث لم تنفعهم الحضارة الزراعية التي أنعم الله بها عليهم ، انما ازدادوا كفرا بدل الشكر ، و توغلا في الجاهلية .

ومن اختلاف هاتين القصتين نعرف : أن السلطة - كما القوة - ليست شيئا مكروها أو ممدوحا بذاتها عند الاسلام ، او في نظر العقل ، انما موقف الانسان منها هو الذي يضفي عليها صفة الخير أو الشر ، فاذا اتخذها طريقا للخير كانت خيرا وإلا فشر .

كما نستفيد من واقع القصتين أن هناك أجلين لحياة الانسان و لما يعطيه ربه منالنعم :

الاول : هو الأجل المسمى المحدد عند الله ، و هو العمر الطبيعي للانسان .

الثاني : الأجل المعلق و الذي يستنزله الانسان بعمله ، فيطول اذا اكان العمل خيرا كالصدقة و الاحسان ، و يقصر اذا كان شرا كقطيعة الرحم .

فبالنسبة للحضارات لا تبقى للأبد لأن هناك سنة الهية عليا تقضي بفناء الانسان ، و بوار ملكه بعد ان ينقضي أجله المسمى ، قال ربنا سبحانه : " و تلك الايام نداولها بين الناس " و قال : " هو الذي جعلكم خلائف في الارض " .

و هكذا نجد ان الحضارات تسير ضمن دورة معينة ، فعادة ما يعقب نموها و ازدهارها التدهور و الانحطاط ، و الذي يمكننا ان نسميه بالأجل الطبيعي للحضارة .

و لكن الناس كثيرا ما يستعجلون هذه السنة بعصيانهم و كفرهم ، الأمر الذي يسبب موت كثير من الحضارات في ريعان شبابها ، فقد كان من المتوقع لالمانيا قبل الحرب العالمية ان تصير سيدة اوربا صناعيا و حضاريا ، و لكنها ماتت في ايام شبابها بسبب طيش هتلر ، و مبادئ الحزب النازي ، و بسبب الثقافة العنصرية التي انتشرت عند الشعب الألمانــي فاستجاب لتلــك القيادة الرعناء . فعمر الحضارات اذن طويل لو لا اخطاء اصحابها .

ان قصة سليمان و والده (ع) صورة للحضارة التي امتدت فترة من الزمن ، ثم انتهت بصورة طبيعية ، بينما قصة سبأ الذي انتهت حضارتهم بسيل العرم صورة مناقضة تجسد النهاية غير الطبيعية . فداود و سليمان (ع) ضربا مثالا للحضارة البشرية النموذجية ، و لما تم المثلانتهت حضارتهم ، فهي بدأت من نشأتها حتى صارت شبابا ثم هرمت و ماتت ، لكن حضارة سبأ ماتت في شبابها .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس