فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[14] أبقى الله نبيه سليمان (ع) منتصبا على عصاته بعد الموت ، و ذلك بهدف فضيحة الجن الذين كانوا يدعون بأنهم يعلمون الغيب ، و لإبطال الاعتقاد السائد لدى قسم من الناس بانهم كذلك ، و الذي تحول الى نمط من الثقافة الجاهلية بل عبادة ، و لعل لهذه الحادثة أثرها الكبير في القضاء على الجانب الأكبر من عبادة الجن الشائعة في التاريخ .

[ فلما قضينا عليه الموت ]

و لعل القضاء هنا هو اجراء القدر الأول .

[ ما دلهم على موته إلا دابة الأرض ]

وهي الأرضة .

[ تأكل منسأته ]

اي العصا التي يتوكأ عليها ، و الاعتماد على العصا ليس دليلا على العاهة أو المرض ، لان موسى (ع) المعروف ببطشه و قوته كان يتوكأ عليها أيضا : " قال هي عصاي أتوكؤ عليها و أهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى " (1)و حينما أكلت الأرضة العصا التي يعتمد عليها سليمان خر إلى الأرض .

[ فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ](1) طه / 18


و لهذه الآية تفسيران :

الأول : ان معناها بعد ان خر جسد سليمان (ع) الى الارض عرفت الجن بموته الذي مضى عليه عام واحد ، فتمنوا علم الغيب ، اذ لو أوتوا ذلك لما بقوا يعملون هذه المدة ، و يشير هذا الأمر الى ان الجن كانوا مسخرين بالقوة ، و ما كانوا يقدرون على التمرد ضد سليمانفي حياته .

الثاني : انه لما خر جسد سليمان الى الأرض ، و كان الجن قد عملوا له سنة كاملة ، دون علم بموته ، افتضح أمرهم عند الناس ، و انكشف للجميع أنهم لا يعلمون الغيب ، اذ لو كانوا كذلك لما بقوا يعملون شيئا لا يريدونه ، و لعلنا نستفيد من آخر الآية : " مالبثوا في العذاب المهين " ان خضوع الانسان الى حاكم لا يرتضيه سواء كان الحاكم صالحا كسليمان ، أو طالحا كفرعون ، أو حتى قيام الانسان بعمل لا يقتنع به ، من أشد الأمور ايلاما و عذابا له ، أو ربما كان هؤلاء الجن من العصاة فأراد سليمان عذابهم بالأعمالالشاقة .

قال الامام الباقر عليه السلام :

" ان سليمان بن داود - عليهما السلام - قال ذات يوم لاصحابه : ان الله تعالى وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ، سخر لي الريح ، و الانس ، و الجن ، و الطير ، و الوحوش ، و علمني منطق الطير ، و اتاني من كل شيء ، و مع جميع ما أوتيت من الملك ما تم ليسرور يوم الى الليل ، وقد أحببت أن أدخل قصري في غد ، فأصعد أعلاه و أنظر الى ممالكي ، و لا تأذنوا لأحد على ما ينغص علي يومي ، قالوا : نعم ، فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده ، و صعد إلى أعلى موضع من قصره ، و وقف متكئا على عصاه ينظر الى ممالكه سرورا بما أعطي ، اذ نظر الى شاب حسن الوجه و اللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره ، فلما بصر بهسليمان (ع) قال له : من أدخلك الى هذا القصر ، و قد أردت أن أخلو فيه اليوم فبإذن من دخلت ؟! قال الشاب : ادخلني هذا القصر ربه ، و بإذنه دخلت ، قال : ربه احق به مني فمن أنت ؟ قال : انا ملك الموت ، قال : وفيما جئت ؟ قال : جئت لاقبض روحك ، قال : امض لما أمرت به ، فهذا يوم سروري ، و أبى الله عز وجل ان يكون لي سرور دون لقائه ، فقبض ملك الموت روحه و هو متكئ على عصاه ، فبقى سليمان متكئا على عصاه و هو ميت ما شاء الله ، و الناس ينظرون اليه وهم يقدرون انه حي ، فافتتنوا فيه ، و اختلفوا ، فمنهم من قال : ان سليمان قد بقى متكئا على عصاه هذه الأيام الكثيرة ولم يتعب ولم ينم ، ولم يأكل ، ولم يشرب ، انه لربنا الذي يجب علينا ان نعبده ، و قال قوم : ان سليمان ساحر ، و انه يرينا انه وقف متكئ على عصاه ، يسحر أعيننا و ليس كذلك ، فقال المؤمنون : ان سليمان هو عبد الله ونبيه ، يدبر الله أمره بما يشاء ، فلما اختلفوا بعث الله عز وجل دابة الأرض ، فدبت في عصاه ، فلما أكلت جوفها انكسرت العصا ، و خر سليمان من قصره على وجهه ، فشكرت الجن للأرضة صنيعها ، فلاجل ذلك لا توجد الارضة في مكان الا وعندها ماء و طين ، و ذلك قول الله عز وجل : " فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته الا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " " (1)[15] ثم يضرب القرآن مثلا آخر وذلك من تاريخ اليمن ، كشاهد على الحضارة التي تموت فجأة وقبل أجلها الطبيعي ، و سبأ التي يذكرنا بها القرآن قبيلة عاشت على الطـــرف الجنوبي لشبه الجزيرة العربية ، و كانت تتقلب في نعماء الله حتى بطرت معيشتها ، فتكبرت عن الشكر له ، و لم ترع العوامل المسببة للخير ، فدمر الله سدها الذي تقوم عليه حضارتها الزراعية ، فانهارت و بادت ، و تبددت القبيلة حتى انقرض كيانها ، فضرب به المثل العربي : ( تفرقوا أيادي سبأ ) .


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 324


[ لقد كان لسبأ في مسكنهم ءاية جنتان عن يمين و شمال ]و كان ينبغي لهؤلاء ان لا يقفوا عند الآية ، انما يستدلوا بها على الحقيقة التي تهدي اليها ، و هي كما تبين آخر الآية معرفة رب النعم وهو الله ، و من ثم شكره لتزداد النعمة و تدوم ، و الملاحظ ان الله استخدم للتعبير عما فيه سبأ من النعيم كلمة " مساكن " ولم يقل بيوت ، و لعل المسكن هو البيت الذي يأوي اليه الانسان مطمئنا مرتاحا ساكنا ، بينما البيت هو محل المبيت ، و ربما أتاه الانسان قلقا حزينا .

و قوله عز وجل : " جنتان عن يمين و شمال " يكشف عن الطبيعة الجغرافية ، ذلك لانه يفهم من هذا التعبير وجود نهر يقسم البلاد الى شطرين ، و لعل هذا النهر يتصل بالسد حيث تفرغ المياه فيه ليحملها الى الجنان التي على جانبيه .

و كان من المفروض ان تستفيد سبا مما تنتجه الأرض ، عارفين بأنه مــن عند الله ، ثم يشكرونه .

[ كلوا من رزق ربكم و اشكروا له ]

و قد أمر الله آل داود بذلك ، فلما استجابوا و شكروا استمرت حضارتهم ، حتى وافاها أجلها الطبيعي بموت سليمان ، أما هؤلاء فلم يشكروه ، مما أدى الى اندحار حضارتهم .

و المجتمع حينما تكون مسيرته العامة الشكر لله مباشرة ، أو الشكر للعباد قربة له ، فانه يصبح مجتمعا فاضلا خيرا ، أو كما يعبر القرآن :

[ بلدة طيبة ]

لانه يسير في ركاب الحق ، اما بالنسبة للذنوب و الأخطاء الجانبية فانها لا تقضيعلـــى الحضارات ، بالذات إذا لم يكن مصدرها التحدي و العناد ، انما يصلحها الله و يغفرهــا .

[ و رب غفور ]

[16] كانت هذه دعوة الله لهم ولا تزال تشمل البشرية جيلا بعد جيل ، لكنهم رفضوها .

[ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم ]

و الفاء تفيد العطف و التعقيب بلا فاصل ، فالآية اذن تشير الى سرعة التكذيب ، كما تشير الى سرعة الجزاء ، و هذا يدل على ان حضارتهم لم تبق كثيرا ، و ربما دلت على ان حضارتهم مهما طالت فإن الله يختصر المسافة بين التكذيب و الجزاء ، فمهما عاشوا فهو قليل عند الله حقير .

يقول علي بن ابراهيم : " وكانت لهم عن يمين و شمال ، عن مسيرة عشرة أيام فيها لا يقع عليه الشمس من التفافها ، فلما عملوا المعاصي ، و عتوا عن أمر ربهم ، و نهاهم الصالحون فلم ينتهوا ، بعث الله - عز و جل - على ذلك السد الجرذ ، و هي الفأرة الكبيرة ،و كانت تقلع الصخرة التي لا يستقلها الرجال ، و ترمي بها ، فلما رأى ذلك قوم منهم هربوا و تركوا البلاد ، فما زال الجرذ تقلع الحجر حتى خرب ذلك السد ، فلم يشعروا حتى غشيهم السيل ، و خرب بلادهم ، و قلع اشجارهم " (1)[ و بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط و أثل و شيء من سدر قليل ](1) المصدر / ج 4 - ص 327


و قد اختلف المفسرون في معنى الخمط و الاثل ، الا انهما كما يبدو شجرتان بريتان شوكيتان ، قد تكون احداهما الأراك و الأخرى السمر ، و كذلك السدر من الاشجار التي تقاوم الجفاف .

[17] و يبين الله السبب الرئيسي الذي يقف خلف هذه النهاية المدمرة الا وهو الكفران بالنعمة .

[ ذلك جزيناهم بما كفروا ]

بالله و بأنعمه .

[ وهل نجازي إلا الكفور ]

و من هذا المقطع نستفيد فكرتين : فمن جانب هناك إشارة الى أن الجزاء يشمل كل كفـور ، دون ان يختص بهذه الجماعة التي يذكرها القرآن ، و من جانب آخر يوضح تعبير " كفور " بأن الرب يعطي فرصة للعباد عند الخطيئة ، المرة بعد الأخرى رحمة بهم ، فهو لايأخذهم بالعذاب في بادئ الأمر ، انما بعد الإصرار على الذنب ، و صيغة المبالغة " كفور " تدل على تكرار الكفر بالنعمة .

هكذا بادت الحضارة الزراعية التي انتشرت ربوعها على اطراف شبه الجزيرة ، التي لم يكن الرجل يحتاج وهو يمشي بين اغصانها المتدلية باصناف الثمر لكي يقطف منها ما يشاء ، الا للقليل من الجهد ، و حلت محلها حياة متخلفة .

[18] ثم ينتقل بنا السياق الى تجربة حضارية ثالثة ، من واقع القرى التي امتدت من اليمن حتى مكة و المدينة ، والتي تميزت بالظهور وهو الارتفاع أو القوة أو الشهرة ، و بالنظام و الامتداد ، و اخيرا بالامن الذي يعتبر من أعظم نعم الله علىالانسان .

[ و جعلنا بينهم ]

اي بين أهل سبأ الذين مر الحديث عنهم في الآيات السابقة .

[ و بين القرى التي باركنا فيها ]

وهي مكة و ما حولها .

[ قرى ظاهرة و قدرنا فيها السير ]

و لعل هذه اشارة الى النظام ، حيث جعل الله السير فيها مقدورا ، و يعتبر ذلك ميزة لحضارة هذه القرى ، لأنها كانت تعيش في منطقة جبلية يصعب السير فيها ، و ربما كانت جبالها و وديانها تبتلع القوافل الضائعة .

[ سيروا فيها ليالي و أياما ءامنين ]

و هذه العبارة توحي لنا بمعنيين : احدهما : سعة الحضارة ، إذ يسير فيها الإنسان أياما و ليالي ، فهي إذن ممتدة شاسعة المساحة ، و ثانيهما : الأمن الذي كانت تتمتع به هذه القرى ، و الجدير بالذكر أن الأمن في ذلك الزمان وفي هذه المنطقة التي يحدثنا عنها القرآن بالذات كان أمرا نادرا بسبب عصابات قطاع الطرق ، و الوحوش .

[19] لكن هؤلاء رفضوا هذه الخيرات و المعطيات ، التي تمخضت عنها الحضارة الجديدة ، و بدأوا يحنون الى الماضي ، حيث القبلية و التفرقة الحاكمة ، و حيث الروح الفردية المستبدة .

[ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ]


و لعلهم في هذا الجانب و بهذه الروح يشبهون بني اسرائيل ، حيث تقدمت بهم الحضارة حتى صار أكلهم يتنزل عليهم من السماء منا و سلوى ، لكنهم رفضوه ، و أخذهم الحنين الى القديم من البقل و العدس و الفوم ، فذمهم الله على هذه النفسية السلبية المتخلفة وقال : " اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم و ضربت عليهم الذلة و المسكنة و باؤوا بغضب من الله " (1) و يصف الله هذه الروحية بانها صورة للظلم الذي يعود على صاحبه بالضرر و الفساد .

[ و ظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ]

و مضربا للمثل في خاتمة السوء ، و تهدينا الآية الى نهاية هؤلاء ، حيث تحولوا من الواقع المتحضر القائم على الأرض ، الى مجرد احدوثة على ألسنة الناس ، و القرآن الكريم يشير الى ان حضارتهم انما تبددت بسبب الروح الفردية التي نخرت كيانها فيقول :

[ و مزقناهم كل ممزق ]

حيث تحولت النزعة الانانية الى واقعها المر ، ولا ريب ان الحضارة تولد بالجهود الجماعية المنظمة ، حيث تتركز الجهود ، و حين تنعدم الروح الجماعية ، و التفكير المشترك ، و السعي الموحد ، تؤول الى الدمار .

و في تفسير الآية عن الامام الصادق (ع) قال :

" هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ، ينظر بعضهم الى بعض ، و انهار جارية ، و أموال ظاهرة ، فكفروا بنعم الله عز وجل ، و غيروا ما بأنفسهم ، ففرق قراهم ، و خرب ديارهم ، و اذهب بأموالهم " (2)(1) البقرة / 61

(2) نور الثقلين / ج 4 - ص 329


و قصص هذه الحضارات الأربع تنطوي على كثير من الدروس و العبر التي تنفع البشرية في مسيرتها الحضارية الصاعدة ، و البشرية أحوج ما تكون و هي تنشد الرقي ان تدرس تجارب الحضارات الأخرى ، و بالذات الماضية منها ، لأنها مرت بدورة حضارية كاملة .

[ إن في ذلك لأيات لكل صبار شكور ]

انها ليست قصصا للتسلية و اللهو ، بل تحمل مشاهدها الدروس و العبر ، و حتى يستوعب الانســان الفرد أو الامة ذلك عقليا و أهم منه عمليا لابد ان تتوفر فيه صفات معينة : أبرزها الصبر الدائم ، و الشكر الكثير ، لأن الصبر آية سكينة النفس ، و حصانة العقل ، و بعد النظر ، و معرفة عواقب الأمور ، و كل تلك الصفات ضرورية لوعي الحقائق ، و معرفة غيب الاحداث ، و ما ورائيات الظواهر التاريخية .

أما الشكر فانه دليل العلم ، فالجاهل لا يرى أسبابا للنعم ، و لا يفهم ان لكل ظاهرة حادثة عوامل ، أوجدت بها ، و تستمر معها ، و بالتالي لا يبلغ الى معرفة من أنعم عليه فلا يشكره ، هكذا تتصل صفة الشكر و الصبر بعالم المعرفة ، و هكذا تزيد المعرفة بالشكر والصبر .

هذا من جهة ، و من جهة أخرى : ان عبرة هذه القصص هي الشكر و الصبر .

فالقصص الأربع من حضارتي داود و سليمان ، و حضارتي سبأ و القرى التي امتدت منها الى مكة المكرمة ، تلهمنا درس الصبر و الشكر ، فسليمان و داود (ع) انما تقدمت حضارتهما ، و استقامت الى اجلها الطبيعي حينما صبرا و جدا في تأسيسها ، و شكرا الله حفاظا لها من الزوال ، اما الحضارتان الاخريان فدمرتا بنهاية غير طبيعية ، لانعدام صفتي الصبر الذي يعبر عن الجد و الاستقامة ، و الشكر الذي يجسدالاتصال الحقيقي بحبل الله ، و المحافظة على اسباب الرقي ، و اللذان يعتبران روحا لأية حضارة .

و كلمة أخيرة : هل ان شبه الجزيرة التي استضافت الحضارات ، و التي انبعثت فيها ابار النفط بالخير و البركة ، سوف يستفيد أهلها و حكامها من قصص آبائهم ، فكتون حضارتا داود و سليمان (ع) مثلا لهم ، أم لن يعتبروا بتاريخهم ، ولا يصبروا على دين الله ولا يشكروا له ، فتكون الحضارتان الأخيرتان أمثولة لهم ؟!


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس