بينات من الآيات [20] حينما أمر اللــه الملائكة بالسجــود لآدم أبى إبليس - الذي جمع معهم لعبادته - السجود تكبرا ، فطرده الله بعد ان حذر البشر منه ، فقال : " انه لكم عدو مبين " لكن إبليس اكتشف نقاط الضعف في الانسان من حب للمال و السلطان ، فظن في نفسه أنهقادر على أغوائه " و قال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا " (1) و الله يؤكد ان إبليس وجد لظنونه مصداقا بين الناس .
[ و لقد صدق عليهم إبليس ظنه ]
و لعلنا نستفيد من هذا التعبير أن إبليس ظن أنه سوف يتخذ من أبناء آدم نصيبا مفروضا ، ثم سعى حتى جعل ذلك الظن الذي ظنه صادقا و ذلك باغواء الناس .
بلى . ان ابليس عدو خطير لانه قد خطط سلفا للايقاع بالبشر ، و سعى جاهدا لتنفيذ تلك الخطط .
(1) النساء / 118
و هكذا اتبعه الناس أجمعون ، الا مجموعة من الناس هم الفريق المؤمن بالله و اليوم الآخر .
[ فأتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ]
و لا يدل هذا الاستثناء ، على ان الفريق الآخر من المؤمنين اتبعوا ابليس ، إذ معنى " من " هنا التفسير و البيان ، أي اتبعه الا فريقا وهم المؤمنون .
و من أهم مصاديق صرف الشيطان للانسان عن الحق هو اضلاله عن ابتاع القيادة الصادقة ، و هذا ما يفسر الروايات التي جاءت مؤولة الآية الكريمة بانها تعني القيادة الرسالية . (1)[21] و لكن هل جبر الانصياع الى أمر إبليس ، حتى يبرر الانسان انحرافه بأن لا حول له و لا طول تجاه ضغوطه و اساليبه الماكرة ؟ بالطبع كلا .. و الله ينفي هذه الحتمية بعد الاشارة الى عدمها ، من خـــلال تقسيم الناس الى مطيعين لابليس و مخالفين له ، اذ لو كانت حتمية تقضي بالخضوع له لما تمرد عليه فريق المؤمنين ، فالناس إذن هم الذين يقررون طاعة الرب أو اتباع ابليس .
[ و ما كان له عليهم من سلطان ]
يقهرهم به ، بلى . ان وسائل الشيطان و الطغاة كثيرة و ماكرة ، و لكن الانسان قادر على مواجهتها ببصيرة الايمان ، و سلاح التوكل ، و لو تسلح بهما لما أضعفت نفسيته و لما ضللته وسائل الاعلام و التوجيه المنحرفة و غيرها .
و الله يؤكد ان الهدف في خلق ابليس ليس اضلال الناس ، فحاشا لله ان يريد(1) راجع نور الثقلين / ج 4 ، ص 333 - 334
اضلال عباده و قد خلقهم ليرحمهم ، و ان أراد ذلك لما بقي أحد مؤمنا ، و انما خلقه ليمتحن الناس من خلاله .
[ إلا لنعلم ]
علما واقعيا .
[ من يؤمن بالأخرة ممن هو منها في شك ]
والا فان الله بكل شيء عليم ، يعلم بمعرفته و خبرته المطلقة المؤمن من الكافر . و الآية تؤكد على الايمان بالآخرة هو حجر الزاوية في مسيرة الانسان و تحديد مصيره ، بل و في ايمانه ، و بالتالي فان شكه فيها يبعثه على الشك العام في سائر الحقائق .
[ و ربك على كل شيء حفيظ ]
يسجل للانسان أو عليه كل عمل و حركة ، و يحفظها في كتابه الذي يلقاه يوم القيامة منشورا .
و نستوحي من الآية ان ثمة سلطانا محدودا لإبليس على بني آدم ، لا يبلغ درجة الحتم بل يقف عند حدود الضغط ، وان الحكمة من اعطاء ابليس هذا السلطان المحدود ابتلاء البشر ليعرف مدى ايمانهم بالآخرة ، فمن كان ايمانه بها ثابتا فانه يثبت امام ارهاب ابليس و منيتبعه و يمثله من اولي القوة و الثروة و التضليل ، الا ترى كيف صمد السحرة بعد ايمانهم برب موسى و هارون (ع) امام تهديد فرعون لأنهم كانوا واثقين من اليوم الأخر ، فلم يفلح ابليس و خليفته فرعون من النيل من صلابتهم شيئا . تعال نقرأ القرآن :
" قال آمنتم له قبل ان آذن لكم انه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوفتعلمون لأقطعن أيديكم و أرجلكم من خلاف و لأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون انا نطمع ان يغفرلنا ربنا خطايانا ان كنا أول المؤمنين " (1)وهكــذا كــل من تعرض لضغط اولياء الشيطان عليه ان يتذكر الآخرة ليصمد امامهــم .
[22] و الفكرة التبريرية الاخرى التي يعالجها هذا الدرس ، هي فكرة الشفاعة ، التي تعني الاعتماد على قوى أخرى تنقذ الانسان من نار جهنم كالاصنام ، وقد أقحمت هذه الأفكار في المسيحية تحت عنوان الفداء ، اذ كانوا في القرون الوسطى و الى اليوم يذهبون للكنائس مناجل الحصول على صك الغفران .
ولا شك ان الاعتقاد بوجود منقذ غير الله يفرض على الله شفاعته صورة أخرى للشرك .
[ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ]
من الشركاء ، و خضعتهم لهم ، وهم كما يبدو ثلاثة اصناف من الشركاء :
الأول : اصحاب الثروة ، الذي يظن الناس أنهم يرزقونهم ، و أنهم لما يظهر لهم من ثروتهم و ملكهم يشاركون الله في ملكه للحياة ، و القرآن ينفي ملكيتهم ولو بمقدار الذرة المتناهية في الصغر .
[ لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض ]
الثاني : اصحاب السلطة ، و الزعم بأن شخصا او نظاما يشارك الرب في إدارة(1) الشعراء / 49 - 51
الخليقة ، و تدبير شؤون السموات و الارض ، و ينفي السياق ذلك بقوة .
[ و ما لهم فيهما من شرك ]
الثالث : وسائط القوة و الثروة ، من الجنود و الخدم و الوزراء ، و القرآن ينفي أن يكون للأنداد شرك حتى بهذا القدر .
[ وما له منهم من ظهير ]
[23] وانما كانت تعبد هذه الاصنام طمعا في شفاعتها ، و ينقض القرآن هذا الاعتماد فيقول :
[ ولا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له]
الشفاعة هي الدعاء وما يترتب عليه ، و الله ليس مجبورا ان يستجيب لأحد دعاءه في حق نفسه أو في حق الآخرين مهما كان هذا مقربا عند الله ، و يبين القرآن هذا المعنى في قول الله الى حبيبه محمد (ص) : " ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ". (1)
اذن لا مجال لفكرة الفداء في الرسالة الالهية ، بلى . ان الله شفيع للانسان ، و يقبل شفاعة الآخرين فيه حينما تكون عنده مؤهلاتها ، حيث يقول ربنا سبحانه : " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله و استغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما" (2) فمعنى الشفاعة الحقيقي اذن هو ما تقدمت الاشارة اليه و هو ما تؤكده هذه الآية الكريمة . بان يشعر الانسان نفسه بالذنب ، و بضرورة التوبة(1) التوبة / 80
(2) النساء / 64
لله منه ، وما يستلزم ذلك من انكسار القلب ، و عقد العزم على عدم العود اليه ، ثم المجيء للقيادة الرسالية أو من يجسدها و الاستغفار عنده .
و بكلمة : هناك فكرة للشفاعة يتخذها الانسان غطاءا لجرائمه ، و تهربه عن مسؤولياته ، و هي الشفاعة الشركية المرفوضة التي يزعم صاحبها أن أصنام السلطة و الثروة و جنودهما قادرين على إنقاذه من غضب الرب لأنهم يشاركون الله في سلطانه تعالى الله عما يشركون .
و هناك شفاعة مسؤولة تبعث الانسان نحو المزيد من المسؤولية و الطاعة و هي التي يبينها القرآن في أكثر من مناسبة ، و التي تعني دعاء الرسول و الأئمة و الصالحين بالمغفرة لمن اذن الله له بذلك ، و هم المسلمون المطيعون لله و للرسول و الأئمة بصفة عامة .
و انما تبعث هذه الفكرة نحو المزيد من العمل لأنها تقاوم اليأس ، و تزيد من طاعة القيادة الالهية .
يدخل على الامام الباقر (ع) أبو أيمن - وهو مولى لامرأة علي بن الحسين (ع) - فيقول له : يا أبا جعفر تغرون الناس و تقولون : شفاعة محمد ، شفاعة محمد ، فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه (1) ثم قال :
ويحك يا أبا أيمن ، اغرك ان عف بطنك و فرجك ؟! اما لو قد رأيت افزاع القيامة لقد احتجت الى شفاعة رسول الله - صلى الله عليه و آله - ويلك و هل يشفع الا لمن وجبت له " .
(1) تغيير لونه .
ثم قال :
" ما من أحد من الأولين و الآخرين الا وهو محتاج الى شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وآله - يوم القيامة "ثم قال :
" ان لرسول الله الشفاعة في امته ، و لنا الشفاعة في شيعتنا ، و لشيعتنا شفاعة في أهاليهم " .
ثم قال :
" و ان المؤمن ليشفع في مثل ربيعة و مضر " (1)و عندما تغشاهم افزاع القيامة تطير ألبابهم ، و تزيغ ابصارهم ، ولا يعودون الى رشدهم الا بعد ان يفرغ الله قلوبهم من الفزع ، و هنالك يتساءلون : ماذا قال الرب ؟ و يجاوبون : لقد قال الحق .
[ حتى إذا فزع عن قلوبهم ]
و حرف " حتى " يدل على ان الفزع يستمر معهم الى ان يفرجه الله عنهم ، مما يدل على ان الشركاء لا يغنون عنهم شيئا .
و كلمة " فزع عن قلوبهم " تشبه قول العرب ( قرد البعير ) اذا أخذ منه القراد ، و يسمونه السلب ، و معناه سلب عنهم الفزع .
[ قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق ]
(1) المصدر / ص 335
لعل السائل و المجيب هم نفس الفريق ، فسأل البعض و أجاب الأخرون ، و يحتمـــل ان يكون السائل الملائكة و أهل الشفاعة ، و المجيب هم المشفوع لهم من المذنبين ، و الكلام يكون خاصا بالذين يؤذن لهم بالشفاعة ، حيث ينزع عنهم الفزع حينما يؤذن لهم بالشفاعة ، بينما يبقى الأخرون في فزع عظيم .
[ و هو العلي الكبير ]
فلا شفاعة الا باذنه ولا أمنة إلا منه ، ولا نجاة إلا به سبحانه .
و في الآية تفسيرات عديدة ، بيد ان ما ذكرنا أنسب الى السياق من غيره فيما يبدو لي .
[24] ثم يمضي السياق قدما في تفنيد الأفكار التبريرية و منها الزعم بأن غير الله يرزق شيئا ، و سواء كان السلطان أو المترف أو غيرهما فان ربنا ينفي ان يكون الرازق حقا غير الله .
[ قل من يرزقكم من السموات و الأرض ]
من يرسل السحاب ، و يبعث بأشعة الشمس ، و يهدي الإنسان الى طرائق الزراعة و الصناعة ، و يرزقه القوة ؟
[ قل الله ]
ثم يستفيد من اسلوب التشكيك المنهجي لإيصال الانسان الى الحقيقة .
[ و إنآ أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ]
و هذا الاسلوب يجعل الكافر يشكك في طريقه شكا منهجيا ، كما يشك - علىالأقل - في صدق الرسالة ، مما يجره للبحث و التعرف ، و هذا بالطبع سيقوده الى الحق ، مرحلــة فمرحلة ، و انما يبقى في الضلال الذي لا يشكك نفسه ، بل يعتقد جازما انه على الصواب .
و كما ان جزم الانسان بأن طريقه هو الأصح من دون بحث و تدقيق خطأ ، فان اعتقاده بصحة كل اعتقاد كما يدعي ذلك البعض هو الآخر خطأ .
[25] و الفكرة التبريرية الرابعة التي ينسفها القرآن : هي الاعتقاد بأن عمل الانسان يمكن ان يلقى على عاتق غيره ، و اذا كان هذا ممكنا في الدنيا ، حيث يلقي بالمسؤولية على الآخرين ، فانه مستحيل في الآخرة .
[ قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون ]
فكل انسان يلزم طائره في عنقه .
[26] ولكي نتخلص من هذه الفكرة التبريرية يجب ان نتطلع الى الآخرة ، حيث نقف جميعا أمام الله ليحكم بيننا وهناك يتحدد المصير الأبدي .
[ قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ]فلابد ان نعتقد بيوم يتميز به الحق عن الباطل و ان أهلهما بحكم الله ، و ضرورة هذا الاعتقاد ان الانسان ربما يعتمد على نفسه في التمييز بينهما ، فاذا بالضغوط و الإغراءات تؤثر فيه و تضيع منه المقاييس .
و على سبيل المثال : لو لم تكن في العالم مقاييس و موازين محدودة للباعة لاجتهـــد كل واحد في تحديد مكيال خاص به ، و هذا أمر خطير ينهي الى التلاعب بالاقتصاد ، لكن ايجاد مقياس محدد يفرض على الجميع ( البائع و المشتري ) تكييفأنفسهم مع هذا المقياس ، فيكون حاكما بينهم ، كذلك العلم بوجود مقياس ثابت عند الله لابد ان ننتهي اليه جميعا يقف دون العمل بالاهواء .
[27] وفـــي نهاية هذا الدرس يذكرنا القرآن بأن الشركاء ليس فقط لا يملكون شيئا ، بل هم أنفسهم ليسوا بشيء اذا فكر الانسان فيهم .
[ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء ]
وادعيتم انهم يتصرفون في الحياة معه ، أو يؤثرون عليه ، أو يعينونه .
[ كلا بل هو الله العزيز ]
الذي لا يحتاج الى معين لانه قوي و قادر بذاته .
[ الحكيم ]
الذي يحيط بالأمور علما ، و يتصرف فيها بدقة ، فلا يخطأ حتى يحتاج الى من يسدده أو يصحح حكمه عز وجل .
|