بينات من الآيات [28] ان ما يميز الرسول (ص) عن سائر الانبياء انه بعث لعامة الناس ، اذ لم تختص دعوته بجماعة دون أخرى ، و لا بقوم دون آخر ، و هذا بذاته دليل على صدق رسالته ، ذلك ان الانسان مهما حاول التجرد فانه يبقى ابن بيئته التي تعكس عليه آثاره في واقع الثقافة ، كما تعكس عليه الآثار الطبيعية . من هنا حين يأتي الرسول برسالة تتجاوز القومية ، و العنصرية ، و الاقليمية ، نظريا و عمليا ، فان ذلك يكون دليلا على ان رسالته الهية .
[ و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا ]
و يلاحظ هنا تقديم البشارة على الإنذار ، بينما نجد العكس في بعض الآيات ، و لعل الحكمة أنه إذا كان الحديث عن هداية الانسان استلزم تقديم الانذار لأنه الاقوى أثرا في البشر ، بينما اذا جرى الحديث عن شخص الرسول تقدمت البشارة للدلالة على انه بعث رحمة للعالمين .
و السؤال : من الذي تسوقه البشارة الى العمل الصالح ، و يمنعه الانذار عن الذنب ؟
انه العالم . أوليس العلم يجعل الانسان يؤمن بالحقائق ؟! لهذا جاءت آيات كثيرة تؤكد على علاقة العلم بالايمان ، و تكميل أحدهما للآخر ، و من أبرزها قولهتعالى : " انما يخشى الله من عباده العلماء " (1) و انما لا يستجيب غالبية الناس للرسل ببشارتهم و انذارهم لجهلهم ، فاذا رأيت أغلب الناس كفارا فلا تستوحش من ذلك ، ولا تظن بان ذلك دليل على ضعف أدلة الرسالة ، بل على ان الايمان - كما العلم - درجةرفيعة لا يبلغها الا الصفوة من الناس .
[ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ]
فهم لا يؤمنون .
[29] [ و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ]
و يتشبث الانسان بتبرير فاسد آخر حين يتسائل : إذن اين الجزاء ؟! لماذا يتأخر عن المجرمين ؟! اذا كنتم صادقين في ان لكل عمل صالح جزاء حسنا يبشر به الرسول ، و لكل جريمة عقابا ينذر به .
[30] و يبطـل السياق هذا التبرير أيضا بان الجزاء آت ، و ان تأخيره لأجل محدود ، وانه حين يحين ميعاده لا يتأخر ساعة ولا يتقدم .
[ قل لكم ميعاد يوم لا تستئخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ]وقد اخفى الله أجل الانسان ، فهو لا يدري متى يوافيه الموت و الجزاء ، و لعل اي لحظة يمر بها تحمل في طياتها أجله ، مما يدعوه الى التسارع و المبادرة لعمل الخير ، و الاستقامة عليه . يقول الرسول (ص) لابي ذر ( رض ) :
" يا أباذر ! اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، و صحتك قبل(1) فاطر / 28
سقمك ، و غناك قبل فقرك ، و فراغك قبل شغلك ، و حياتك قبل موتك " (1)ذلك ان الحكمة من اخفاء الأجل هي بعث روح المبادرة في الانسان ، هكذا يقول الامام الصادق (ع) :
" ثم [ لو ] عرف ذلك - يعني أجله - وثق بالبقاء ، و انهمك في اللذات و المعاصي ، و عمل على انه يبلغ من ذلك شهوته ، ثم يتوب في آخر عمره ، و هذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله ، الى ان يقول (ع) : فكان خير الاشياء للانسان ان يستر عنه مبلغ عمره ، فيكون - طول عمره - يترقب الموت فيترك المعاصي ، و يؤثر العمل الصالح " (2)و الساعة التي تعنيها الآية الكريمة ليست كما هي عندنا ، انما هي في عرف القرآن اللحظة و أقل منها ، و في الخبر يسأل الامام الصادق (ع) عن الناس يموتون بين فاتح لعينه و آخر مغمضها ؟ يجيب : ان ملك الموت حينما يأتي على الرجل ليقبض روحه وهو مغمض العين ، يستأذنه و يقول : ائذن لي افتحها ، و الآخر على خلافه ، فلا ياذن لهما اذن لماذا نستهين بالزمن ! و لماذا نقتل المسافة التي تفصلنا عن أجلنا باللهو و اللعب و المعصية ، و نحن لا نعرف متى ينتهي هذا الزمان !
[31] ان من عقبات الايمان بالرسالة حالة العناد التي يعالجها الذكر ببيان نتائجها السيئة ، فيحدثنا السياق عن كلمة الكفار : بانهم لا يؤمنون بالقرآن ، ولا بالكتب التي سبقته ، و كأنهم قد عقدوا العزم على هذا الرفض القاطع لرسالات ربهم .
(1) بح / ج 77 - ص 75
(2) بح / ج 2 - ص 84
[ و قال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرءان ولا بالذي بين يديه ]و الله يعالج مشكلة العناد هذه عن طريق تصوير مشاهد رهيبة من يوم الآخرة .
ومن بين تلك المشاهد التي تتعرض لها آيات هذا الدرس وقوف الظالمين أمام ربهم ، يلوم بعضهم بعضا ، و لعل هذه المعالجة القرآنية تدل على أن الانسان يعتمد أولا على قـوة ارضية يزعم انها تمنعه من ربه ، و تخلصه من جزاء كفره ، ثم يستكبر على ربه ، و يتحدى رسالاته ، لذلك يبين السياق بطلان ذلك ، و يصور لنا مشهد الحوار بين الكفار و من كانوا يعتمدون عليهم في الدنيا في كفرهم بالرسالة ، فيقول :
[ ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ]
يلقي بعضهم المسؤولية على البعض الآخر ، طمعا في النجاة من الذل و العذاب .
[ يرجع بعضهم إلى بعض القول ]
متصورين انهم يقدرون على ذلك ، كما هو الحال في الدنيا ، و يتشبث بعضهم وهم المستضعفون بحجة اتباع المستكبرين .
[ يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ]ولكن هل خلق الله الناس مستكبرا و مستضعفا حتى يكون لبعضهم على بعض سلطان مبين ؟! كلا .. بل خلقهم أحرارا ، ولكن خضع بعضهم للبعض الآخر بحريته ، فشجعه على الاستعلاء في الارض .
ولو عرف الانسان مدى ضلالة الاعتماد على اولي القوة و الثروة و ادعياء العلمو الدين ممن ينصبون أنفسهم سادة على الناس ، و يأمرونهم باتباعهم ، لما تورط كثير من الناس في الجرائم ، اتباعا للسلاطين و المترفين و مؤيديهم من ادعياء العلم و الدين .
و لكن الانسان يزعم ان هؤلاء المستكبرين ينقذونه من عذاب ربه يوم القيامة ، كما انهم يوفرون له بعض الحماية في الدنيا ، ولا يعلم انهم مجرد ابتلاء له في الدنيا ، و انهم لا يغنون عنه من عذاب ربه شيئا .
[32] اما المستكبرون فانهم من جانبهم يدفعون عن أنفسهم التهمة بأن الانسان حر و مختار ، لا يمكن لأحد اجباره على نمط معين من الحياة ، واذا ترك الحق للباطل فبما ينطوي عليه قلبه من النزوع الى الجريمة .
[ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا ]
و هم يحاولون القاء المسؤولية عن كاهلهم .
[ أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاء كم ]
بلى . قد يتوسل المستكبرون بالمكر و الاساليب المضلة ، و لكن يبقى الانسان صاحب القرار ، و اذا انحرف فلا يعدو اضلال المستكبرين له دور التشجيع .
[ بل كنتم مجرمين ]
و هذا ضرب من الشماتة على الانسان من قبل مـــن كان يزعم انه يخلصه و ينجيه ، و لعل ذلك من أشد انواع العذاب الذي يلقاه اصحاب النار .
ولو عقل الناس هذه الحقيقة لانهارت أسس الظلم في المجتمعات ، حين يعلونالمستكبرون فيها ، و يعيثون فسادا ، و يتبعهم المستضعفون زاعمين أن ذلك يلقي المسؤولية عن كاهلهم ، و يجعلهم مبرئين من الجرائم التي يرتكبونها بحق بعضهم ، و يقولون : المأمور معذور ، و كأن الله أمرهم باتباعهم ، أو انه خلقهم مستضعفين و جعل أولئك مستعلين عليهم .
[33] ومن صور الفكر التبريري الذي يعتمده الانسان : اعتقاده بأن الزمان هو الذي يفرض عليه نوعا من السلوك ، فيلقي عليه اللوم !
[ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل و النهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله و نجعل له أندادا ]و الكفر بالله ليس بالضرورة نفي وجوده بقدر ما هو تحدي رسالاته ، و اتباع الأهواء ، أو الاشخاص ، أو القوانين الوضعية ، وهذا ما يبعث على الانسان بالندامة يوم الحساب ، حيث يتبرا منه الأنداد المزيفون ، و يكتشف أنهم لا ينفعونه بل يضرونه ، و ان الكلمة الفصل هناك لله الحق .
[ و أسروا الندامة لما رأوا العذاب ]
ولات حين مندم .
[ و جعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ]
و حتى يقاوم الانسان فكرة القاء المسؤولية على الآخرين ، يؤكد القرآن مرة أخرى بان ما يلاقيه الانسان في الآخرة من ألوان العذاب و صنوفه هو جزاء أعماله في الدنيا ، و أساسا - في الرسالة الإلهية - الجزاء من جنس العمل ، فالصلاة التي يقيمها المؤمن في الدنيا تتحول حورية في الآخرة ، و على العكس فان الغيبة تصبحزقوما يؤذي صاحبه ، و ربما تحولت الى حيات و عقارب و التي ورد في الحديث ان حجمها بحجم البغل ، و لعل الأغلال التي يجعلها الله في أعناق الكفار هي ذات القيود التي يغل بها الناس أنفسهم باتباعهم في الدنيا للااهواء و الاشخاص و القوانين ، و لعل خاتمة الآية تشير الى ذلك حين تقول :
[ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ]
ولم يؤكد القرآن الكلام بحرف الباء فيقل : بما كانوا يعملون ، للاشارة إلى ان الأغلال هي ذات الأعمال التي عملوها في الدنيا و الله العالم .
|