next page

fehrest page

back page

الفصل السابع : في قصة قارون و ذبح البقرة و ما يتعلق بها

تفسير علي بن إبراهيم كان سبب هلاك قارون أنه لما أخرج موسى بني إسرائيل من مصر و أنزلهم البادية و ذلك بعد غرق فرعون و قومه أمرهم بقتال الجبابرة في أريحا أرض الشام فلم يطيعوه و قالوا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ففرض الله عليهم دخولها و حرمها عليهم أربعين سنة و كانوا في التيه و كان قارون منهم و كان يقرأ القرآن و لم يكن فيهم أحسن صوتا منه و كان يسمى المنون لحسن قراءته و قد كان يعمل الكيمياء فلما طال الأمر على بني إسرائيل في التيه أخذوا في التوبة و كان قارون امتنع أن يدخل معهم في التوبة و كان موسى يحبه .

فدخل عليه موسى فقال يا قارون قومك في التوبة و أنت قاعد هاهنا ادخل معهم و إلا نزل بك العذاب فاستهان به و بقوله فخرج من عنده مغتما فجلس في فناء قصره عليه جبة شعر و نعلان من جلد حمار فأمر قارون أن يصب عليه رماد قد خلط بالماء فصب عليه فغضب موسى غضبا شديدا و كان في كتفه شعرات كان إذا غضب خرجت من ثيابه و قطر منها الدم .

فقال موسى يا رب إن لم تغضب لي فلست لك بنبي فأوحى الله إليه قد أمرت السماوات و الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت و قد كان قارون أمر أن يغلق باب القصر فأقبل موسى فأومى إلى الأبواب فانفرجت و دخل عليه فلما نظر إليه قارون علم أنه قد أوتي بالعذاب فقال يا موسى أسألك بالرحم بيني و بينك فقال له موسى يا ابن لاوي لا يردني كلامك يا أرض خذيه فدخل القصر بما فيه في الأرض و دخل قارون في الأرض إلى الركبة فبكى و حلفه بالرحم فقال له موسى يا ابن لاوي لا يردني من كلامك.

[280]

و هذا ما قال موسى لقارون يوم أهلكه الله فعيره بما قاله لقارون فعلم موسى أن الله قد عيره بذلك فقال يا رب إن قارون دعاني بغيرك و لو دعاني بك لأجبته فقال الله يا ابن لاوي لا تردني من كلامك فقال موسى يا رب لو علمت أن ذلك لك رضا لأجبته فقال الله تعالى و عزتي و جلالي لو أن قارون كما دعاك دعاني لأجبته و لكنه لما دعاك وكلته إليك يا ابن عمران لا تجزع من الموت فإني كتبت الموت على كل نفس و قد مهدت لك مهادا لو قد وردت عليه لقرت عينك .

فخرج موسى إلى جبل طور سيناء مع وصيه فصعد موسى الجبل فنظر إلى رجل قد أقبل و معه مكتل و مسحاة فقال له موسى ما تريد قال إن رجلا من أولياء الله توفي فأنا أحفر قبره فقال له موسى أ فلا أعينك عليه قال بلى فحفر القبر فلما فرغا أراد الرجل أن ينزل إلى القبر فقال له موسى ما تريد قال أدخل القبر فأنظر كيف مضجعه فقال موسى أنا أكفيك فدخل موسى فاضطجع فيه فقبض فيه ملك الموت روحه و انضم عليه الجبل .

أقول : قوله تعالى كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى .

قيل كان ابن عمه يصهر بن فاهث و موسى بن عمران بن فاهث و قيل كان ابن خالته .

و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل كان عم موسى (عليه السلام) .

و قول قارون إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ أي فضت على الناس بالجاه و المال عَلى عِلْمٍ و هو علم التوراة و كان أعلمهم و قيل هو علم التجارة و الدهقنة و سائر المكاسب و قيل علم بكنوز يوسف .

و عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في خبر يونس قال فدخل الحوت في بحر القلزم ثم خرج إلى بحر مصر ثم دخل إلى بحر طبرستان ثم دخل إلى دجلة العوراء ثم مرت به تحت الأرض حتى لحقت بقارون و كان قارون هلك في أيام موسى و وكل الله به ملكا يدخله في كل يوم قامة رجل و كان يونس في بطن الحوت يسبح الله و يستغفره فسمع قارون صوته فقال للملك الموكل به أنظرني فإني أسمع كلام آدمي فأوحى الله إلى الملك أنظره ثم قال قارون من أنت قال قال أنا المذنب الخاطئ يونس بن متى قال فما فعل شديد الغضب لله موسى بن عمران أخو كلثم التي كانت سميت لي

[281]

قال هيهات هلك قال فما فعل الغفور الرحيم على قوم هارون بن عمران قال هلك قال فما فعلت كلثم بنت عمران التي كانت سميت لي قال هيهات ما بقي من آل عمران أحد فقال قارون وا أسفاه على آل عمران فشكر الله له ذلك فأمر الملك الموكل به أن يرفع عنه العذاب أيام الدنيا فرفعه عنه .

و روي في قوله تعالى فَبَغى عَلَيْهِمْ يعني على بني إسرائيل .

فقال ابن عباس كان فرعون قد ملك قارون على بني إسرائيل حين كان بمصر و كان يظلمهم .

و قيل زاد عليهم في الثياب شبرا و قيل بكثرة ماله .

و روي عن حنتمة قال وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز و كانت من حديد فلما ثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت عليه فجعلت من جلود البقر على طول الأصابع فكانت تحمل معه و يقال أينما يذهب تحمل معه على أربعين بغلا .

و كان أول طغيانه أنه تكبر و استطال على الناس بكثرة الأموال فكان يخرج في زينته و يختال .

قال مجاهد خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان في سبعين ألفا عليهم المعصفرات .

و قيل : في أربعة آلاف فارس و معهم ثلاثة آلاف جارية بيض عليهم الحلي و الثياب الحمر فتمنى أهل الجهالة مثل الذي أوتيه .

ثم إن الله أوحى إلى نبيه موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر لونه لون السماء فأمرهم به موسى و قال لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها فإنه تعالى ينزل من السماء عليكم كلاما فاستكبر قارون و قال إنما تفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكي يميزوا من غيرهم .

و لما قطع موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة و هي رئاسة المذبح و بيت القربان لهارون فكان بنو إسرائيل يأتون بهديتهم و يدفعونها إلى هارون فيضعها على المذبح فتنزل النار من السماء فتأكلها فوجد قارون في نفسه من

[282]

ذلك و أتى موسى و قال يا موسى لك الرسالة و لهارون الحبورة و لست في شي‏ء من ذلك و أنا أقرأ للتوراة منكما لا صبر لي على هذا فقال موسى و الله ما أنا جعلتها لهارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون و الله لا أصدقك في ذلك حتى تريني بيانه فجمع موسى (عليه السلام) رؤساء بني إسرائيل و قال هاتوا عصيكم فجاءوا بها فخرمها و ألقاها في القبة التي كانت يعبد الله تعالى فيها و جعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فأصبحت عصا هارون (عليه السلام) قد اهتز لها ورق أخضر و كانت من شجرة اللوز فقال موسى يا قارون أ ترى هذا فقال قارون و الله و الله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر فذهب قارون مغاضبا و اعتزل موسى بأتباعه و جعل موسى يداريه للقرابة بينهما و هو يؤذيه في كل وقت و لا يزيد كل يوم إلا كبرا و معاداة لموسى (عليه السلام) حتى بنى دارا و جعل بابها من الذهب و ضرب على جدرانها صفائح الذهب و كان الملأ من بني إسرائيل يميلون إلى مجالسته و مضاحكته .

ثم إن الله سبحانه أنزل الزكاة علىموسى (عليه السلام) فصالح قارون على أن يعطي عن كل ألف دينار دينارا و عن كل ألف شاة شاة و عن كل ألف شي‏ء شيئا فرجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل و قال لهم إن موسى قد أمركم بكل شي‏ء فأطعتموه و هو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا له أنت كبيرنا و سيدنا فمرنا بما شئت فقال آمركم أن تجيئوا بفلانة البغية فنجعل لها جعلا على أن تقذفه بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل و رفضوه فاسترحنا منه فأتوا بها فجعل لها قارون ألف درهم .

و قيل : طشتا من الذهب و قال لها إني أمولك و أخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان الغد جمع قارون بني إسرائيل فخرج إليهم موسى فقام فيه خطيبا فوعظهم و قال من سرق قطعنا يده و من افترى جلدناه ثمانين جلدة و من زنى و ليست له امرأة جلدناه مائة و من زنى و له امرأة رجمناه حتى يموت فقال له قارون و إن كنت أنت قال و إن كنت أنا قال قارون فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال دعوها فإن قالت فهو ما قالت فلما أن جاءت قال لها موسى يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء و عظم عليها و سألها بالذي فلق البحر و أنزل التوراة فلما ناشدها تداركها الله بالتوفيق و قالت في نفسها لئن أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله فقالت لا و لكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي .

[283]

فلما تكلمت بهذا الكلام نكس قارون رأسه و عرف أنه وقع في مهلكة و خر موسى ساجدا يبكي و يقول يا رب إن عدوك قد آذاني و أراد فضيحتي اللهم فإن كنت رسولك فاغضب لي و سلطني عليه فأوحى الله سبحانه إليه ارفع رأسك و مر الأرض بما شئت تطعك فقال موسى يا بني إسرائيل إن الله قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون و من كان معه فليثبت معه و من كان معي فليعتزل فاعتزلوا قارون و لم يبق معه إلا رجلان ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى كعابهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى حقوتهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم و قارون و أصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى (عليه السلام) و يناشد قارون الله و الرحم حتى ناشده سبعين مرة و موسى في جميع ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض .

فأوحى الله إلى موسى ما أظنك استغاثوا بك سبعين مرة فلم ترحمهم و لم تغثهم أما و عزتي و جلالي لو إياي دعوني مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا .

قال قتادة ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة و أنه يتجلجل فيها و لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة .

فلما خسف الله تعالى بقارون و صاحبيه أصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن موسى إنما دعا على قارون ليأخذ داره و أمواله و كنوزه فدعا الله تعالى موسى حتى خسف بداره و أمواله الأرض الحديث .

تفسير علي بن إبراهيم بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن رجلا من خيار بني إسرائيل و علمائهم خطب امرأة منهم فأجابت و خطبها ابن عم لذلك الرجل و كان فاسقا رديئا فلم تقبل فحسد ابن عمه الذي أجابوه فقعد له فقتله غيلة ثم حمله إلىموسى (عليه السلام) فقال يا نبي الله هذا ابن عمي قد قتل و لا أدري من قتله و كان القتل في بني إسرائيل عظيما جدا فعظم ذلك على موسى (عليه السلام) فاجتمع إليه بنو إسرائيل فقالوا ما ترى يا نبي الله و كان رجل في بني إسرائيل له بقرة و كان له ابن بار و كان عند ابنه سلعة فجاء قوم يطلبون سلعته و كان مفتاح بيته تحت رأس أبيه و كان نائما و كره ابنه أن ينبهه و ينغص عليه نومه فانصرف القوم و لم يشتروا سلعته و لما انتبه أبوه قال له يا بني

[284]

ما ذا صنعت في سلعتك قال هي قائمة لم أبعها لأن المفتاح كان تحت رأسك و كرهت أن أنبهك و أنغص عليك نومك قال أبوه قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عما فاتك من ربح سلعتك و شكر الله لابنه ما فعل بأبيه و أمر بنو إسرائيل أن يذبحوا البقرة بعينها فلما اجتمعوا إلى موسى و بكوا و ضجوا قال لهم موسى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فتعجبوا و قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً نأتيك بقتيل فتقول اذبحوا بقرة فقال لهم موسى أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فعلموا أنهم قد أخطئوا ف قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ أي لا مسنة و لا فتية ف قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها أي شديدة الصفرة تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ أي لم تذلل وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ أي لا تسقي الزرع مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها أي لا نقطة فيها إلا الصفرة قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ هي بقرة فلان فذهبوا ليشتروها فقال لا أبيعها إلا بمل‏ء جوفها ذهبا فرجعوا إلى موسى فأخبروه فقال لهم لا بد لكم من ذبحها بعينها فاشتروها بمل‏ء جلدها ذهبا ثم قالوا ما تأمرنا يا نبي الله فأوحى الله تعالى إليه قل لهم اضربوه ببعضها و قولوا من قتلك فأخذوا الذنب فضربوه به و قالوا من قتلك يا فلان فقال ابن عمي الذي جاء بي و هو قوله فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

و روي في حديث آخر أنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه طمعا في ميراثه و طرحوه على باب المدينة ثم جاءوا يطالبون بدمه فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة و يضربوه ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله الحديث .

و عن أبي جعفر (عليه السلام) : من لبس نعلا أصفر لم يزل ينظر في سرور ما دامت عليه لأن الله عز و جل يقول صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.

و عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) : لو أنهم عمدوا إلى أي بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم .

و قال الطبرسي اختلف العلماء في هذه الآيات فمنهم من ذهب إلى أن

[285]

التكليف فيها متغاير و لو أنهم ذبحوا أولا أي بقرة اتفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر فلما لم يفعلوا كانت المصلحة أن يشدد عليهم التكليف و لما رجعوا المرة الثانية فغيرت مصلحتهم إلى تكليف ثالث .

ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر فمنهم من قال في التكليف الأخير إنه يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدمت فعلى هذا القول يكون التكليف الثاني و الثالث ضم تكليف إلى تكليف زيادة في التشديد عليهم لما فيه من المصلحة و منهم من قال يجب أن تكون الصفة الأخيرة فقط دون ما تقدم و على هذا القول يكون التكليف الثاني نسخا للأول و الثالث للثاني .

و قد يجوز نسخ الشي‏ء قبل الفعل لأن المصلحة يجوز أن تتغير بعدم فوات وقتها و إنما لا يجوز نسخ الشي‏ء قبل وقت الفعل لأن ذلك يؤدي إلى البداء و ذهب آخرون إلى أن التكليف واحد و أن الأوصاف المتأخرة إنما هي للبقرة المتقدمة و إنما تأخر البيان و هو مذهب المرتضى قدس الله روحه و استدل بهذه الآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة قال إنه تعالى لما كلفهم ذبح بقرة قالوا لموسى ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ فلا يخلو قولهم ما هِيَ من أن تكون كناية عن البقرة المتقدم ذكرها أي عن التي أمروا بها ثانيا .

و الظاهر من قولهم ما هِيَ يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها لأنه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى ليستفهموا عنها .

و إذا صح ذلك فليس يخلو قوله إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ من أن يكون الهاء فيه كناية عن البقرة الأولى أو غيرها و ليس يجوز أن يكون كناية عن بقرة ثانية إذ الظاهر تعلقها بما تضمنه سؤالهم و لأنه لم يكن الأمر جوابا لهم و قول القائل في جواب من سأله كذا و كذا إنه بالصفة الفلانية صريح في أن الهاء كناية عما وقع السؤال عنه هذا مع قولهم إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا فإنهم لم يقولوا ذلك إلا و قد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبين و لو كان على ما ذهب إليه القوم فلم لم يقل و أي تشابه عليكم و إنما أمرتم بذبح أي بقرة كانت .

و أما قوله وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ فالظاهر أن ذمهم مصروف على تقصيرهم أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التام لا على ترك المبادرة في الأول إلى ذبح البقرة.

[286]

انتهى غاية ما أفاد رحمه الله هو أن الظاهر من الآيات هو ذلك و بعد تسليمه فقد يعدل عن الظاهر لورود النصوص المعتبرة .

و في تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : أن بني إسرائيل جمعوا أموالهم لشراء البقرة فوسع الله جلد الثور حتى وزن ما ملئ به جلده فبلغ خمسة آلاف ألف دينار فقال بعض بني إسرائيل لموسى (عليه السلام) و ذلك بحضرة المقتول المنشور المضروب ببعض البقرة لا ندري أيهما أعجب إحياء الله هذا و إنطاقه بما نطق به أو إغناؤه لهذا الفتى بهذا المال العظيم فأوحى الله إليه يا موسى قل لبني إسرائيل من أحب منكم أن أطيب في دنياه عيشه و أعظم في جناني محله و أجعل بمحمد و آله الطيبين فيها منادمته ليفعل كما فعل هذا الفتى إنه كان قد سمع موسى بن عمران ذكر محمدا و عليا و آلهما الطيبين و كان عليهم مصليا و لهم على جميع الخلائق من الجن و الإنس و الملائكة مفضلا فلذلك صرفت له المال العظيم قال الفتى يا نبي الله كيف أحفظ هذه الأموال أم كيف أحذر من عداوة من عاداني فيها و حسد من يحسدني لأجلها قال قل عليها من الصلاة على محمد و آله الطيبين ما كنت تقول قبل أن تنالها فإن الذي رزقكها بذلك القول مع صحة الاعتقاد يحفظها عليك أيضا بهذا القول مع صحة الاعتقاد فقالها الفتى فما رامها حاسد له إلا رفعه الله عنها فلما قال موسى (عليه السلام) للفتى ذلك و صار الله له بمقالته حافظا قال هذا المنشور اللهم إني أسألك بما سألك به هذا الفتى من الصلاة على محمد و آله الطيبين أن تبقيني في الدنيا ممتعا بابنة عمي و تخزي عني أعدائي و حسادي و ترزقني فيها خيرا كثيرا طيبا فأوحى الله إليه يا موسى إن لهذا الفتى المنشور بعد القتل ستين سنة و قد و هبت له لمسألته و توسله بمحمد و آله الطيبين سبعين سنة تمام مائة و ثلاثين سنة صحيحة حواسه ثابت فيها جنانه قوية فيها شهواته يتمتع بحلال الدنيا و يعيش و لا تفارقه فإذا حان حينهما و ماتا جميعا معا فصارا إلى جناني فكانا زوجين فيها ناعمين و لو سألني هذا الشقي القاتل بمثل ما توسل به هذا الفتى على صحة اعتقاده أن أعصمه من الحسد و أقنعته بما رزقته و ذلك هو الملك العظيم لفعلت و لو سألني بذلك مع التوبة أن لا أفضحه لما فضحته و لصرفت هؤلاء عن اقتراح إبانة القاتل لأغنيت هذا الفتى من غير هذا الوجه بقدر هذا المال و لو سألني بعد ما افتضح و تاب إلي و توسل بمثل وسيلة هذا الفتى أن أنسي الناس فعله بعد ما ألطف لأوليائه فيعفون

[287]

عن القصاص لفعلت و كان لا يعيره بفعله أحد فلما ذبحوها قال الله تعالى فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ و أرادوا أن لا يفعلوا ذلك من عظم ثمن البقرة و لكن اللجاج حملهم على ذلك و اتهامهم لموسى حداهم قال فضجوا إلى موسى (عليه السلام) و قالوا افتقرت القبيلة و وقف إلى التكفف و انسلخا بلجاجنا عن قليلنا و كثيرنا فادع الله لنا بسعة الرزق فقال لهم موسى ويحكم ما أعمى قلوبكم أ ما سمعتم دعاء الفتى صاحب البقرة و ما أورثه الله تعالى من الغنى أ و ما سمعتم دعاء المقتول المنشور و ما أتم له من العمر الطويل و السعادة و التنعم بحواسه لم لا تدعون الله بمثل وسيلتهما ليسد فاقتكم فقالوا اللهم إليك التجأنا و على فضلك اعتمدنا فأزل فقرنا و سد خلتنا بجاه محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و الطيبين من آلهم فأوحى الله تعالى إليه يا موسى ليذهب رؤساؤهم إلى خربة بني فلان و يكشفوا في موضع كذا وجه أرضها قليلا و يستخرجوا ما هناك فإنه عشرة آلاف دينار ليردوا على كل من دفع في ثمن هذه البقرة ما دفع لتعود أحوالهم ثم ليقاسموا بعد ذلك ما يفضل و هي خمسة آلاف دينار على قدر ما دفع كل واحد منهم في هذه المحنة لتضاعف أحوالهم جزاء على توسلهم بمحمد و آله الطيبين و اعتقادهم لتفضيلهم .

و روي عن السدي و غيره أن رجلا من بني إسرائيل كان بارا بأبيه و بلغ بره أن رجلا أتاه بلؤلؤة فابتاعها بخمسين ألفا و كان فيها فضل و ربح فقال للبائع إن أبي نائم و مفتاح الصندوق تحت رأسه فأمهلني حتى يستيقظ فأعطيك الثمن قال فأيقظ أباك و أعطني المال قال ما كنت أفعل و لكن أزيدك عشرة آلاف فأنظرني حتى ينتبه أبي قال الرجل فأنا أحط عنك عشرة آلاف إن أيقظت أباك و عجلت النقد فقال و أنا أزيدك عشرين ألفا إن انتظرت انتباهة أبي ففعل و لم يوقظ أباه فلما استيقظ أبوه أخبره بذلك فدعا له و جزاه خيرا و قال هذه البقرة لك بما صنعت فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انظر ما ذا صنع البر .

و عن ابن عباس كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل و كان له عجل فأتى بالعجل إلى غيضة و قال اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر و مات الرجل فشبت العجلة في الغيضة و صارت عوانا و كانت تهرب من كل من رامها فلما كبر الصبي كان بارا بوالدته و كان يقسم الليلة ثلاثة أثلاث يصلي ثلثا و ينام

[288]

ثلثا و يجلس عند رأس أمه ثلثا فإذا أصبح انطلق و احتطب على ظهره و يأتي السوق فيبيعه بما شاء ثم يتصدق بثلثه و يأكل بثلثه و يعطي والدته ثلثا .

فقالت له أمه يوما إن أباك ورثك عجلة و ذهب بها إلى غيضة كذا و استودعها فانطلق إليها و ادع إله إبراهيم و إسماعيل و إسحاق أن يردها عليك و إن من علامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها و كانت تسمى المذهبة لحسنها و صفرتها و صفاء لونها .

فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها و قال أعزم عليك بإله إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها و قادها فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى و قالت أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك فقال الفتى إن أمي لم تأمرني بذلك و لكن قالت خذ بعنقها قالت البقرة بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبدا فانطلق فإنك لو ركبتني أمرت الجبل أن يقتلع من أصله و ينطلق معك لفعل لبرك بوالدتك .

فسار الفتى بها فاستقبله عدو الله إبليس في صورة راع فقال أيها الفتى إني رجل من رعاة البقر اشتقت إلى أهلي فأخذت ثورا من ثيراني فحملت عليه زادي و متاعي حتى إذا بلغت شطر الطريق ذهبت لأقضي حاجتي فعدا وسط الجبل و ما قدرت عليه و إني أخشى على نفسي الهلكة فإن رأيت أن تحملني على بقرتك و تنجيني من الموت و أعطيك أجرها بقرتين مثل بقرتك فلم يفعل الفتى و قال اذهب فتوكل على الله و لو علم منك الله اليقين لبلغك بلا زاد و لا راحلة فقال إبليس إن شئت فبعنيها بحكمك و إن شئت فاحملني عليها و أعطيك عشرا مثلها فقال الفتى إن أمي لم تأمرني بذلك.

فبينما الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يدي البقرة و نفرت البقلاة هاربة في الفلاة و غاب الراعي فدعا الفتى باسم إله إبراهيم فرجعت البقرة إليه فقالت أيها الفتى البار بوالدته لا تمر إلى الطائر الذي طار فإنه إبليس عدو الله اختلسني أما إنه لو ركبني لما قدرت عليه أبدا فلما دعوت إله إبراهيم جاء ملك فانتزعني من يد إبليس و ردني إليك لبرك بأمك و طاعتك لها .

فجاء الفتى إلى أمه فقالت له إنك فقير لا مال لك و يشق عليك الاحتطاب بالنهار و القيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة و خذ ثمنها قال لأمه بكم أبيعها .

[289]

قالت بثلاثة دنانير و لا تبعها بغير رضاي و مشورتي .

و كان ثمن البقرة في ذلك الوقت ثلاثة دنانير فانطلق الفتى إلى السوق فعقبه الله سبحانه ملكا ليرى خلقه قدرته و ليختبر الفتى كيف بره بوالدته و كان الله به خبيرا فقال له الملك بكم تبيع هذه البقرة قال بثلاثة دنانير و اشترط عليك رضاء أمي فقال له الملك ستة دنانير و لا تستأمر أمك فقال له الفتى لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضاء أمي .

فردها إلى أمه و أخبرها بالثمن فقالت ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني فانطلق بالبقرة إلى السوق فأتى الملك فقال استأمرت والدتك فقال الفتى نعم إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها قال له الملك فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها فأبى الفتى و رجع إلى أمه و أخبرها بذلك فقالت إن ذلك الرجل الذي يأتيك هو ملك من الملائكة يأتيك في صورة آدمي ليجربك فإذا أتاك فقل له أ تأمر أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل ذلك فقال الملك اذهب إلى أمك و قل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بمل‏ء جلدها دنانير .

فأمسكوا تلك البقرة و قد رد الله تعالى على بني إسرائيل ذبح البقرة بعينها مكافأة على بره بوالدته فضلا منه و رحمة فطلبوها فوجدوها عند الفتى فاشتروها بمل‏ء مسكها ذهبا و قال السدي اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا .

next page

fehrest page

back page