(وفيها تسع آيات)
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمّة وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)
القصص/ 4 ـ 6
روى الحافظ الحاكم الحسكاني (الحنفي) قال: حدثني أبو الحسن القادسي، (بإسناده المذكور) عن المفضّل بن عمر، قال: سمعت جعفر بن محمد الصادق يقول:
(إنّ رسول الله نظر إلى علي والحسن والحسين، فبكى، وقال: أنتم المستضعفون بعدي).
قال المفضّل: فقلت: له ما معنى ذلك يا ابن رسول الله؟
قال: معناه أنّكم الأئمّة بعدي، إنّ الله تعالى يقول:
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمّة وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).
هذه الآية فينا جارية إلى يوم القيامة (1).
* * * * *
وروى هو أيضاً، قال: حدّثنا طاهر بن أحمد (بإسناده المذكور) عن حنش عن علي قال:
(من أراد أنْ يسأل عن أمرنا وأمر القوم فإنّا وأشياعنا يوم خلق السماوات والأرض على سنة موسى وأشياعه، وإنّ عدوّنا يوم خلق السماوات والأرض على سنّة فرعون وأشياعه.
فليقرأ هؤلاء الآيات:
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ) الآية.
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ـ إلى قوله ـ يحذرون).
(ثم قال علي):
فأقسم بالذي خلق الحبة، وبرأ النسمة، وأنزل الكتاب على موسى صدقاً وعدلاً، ليعطفُن عليكم هؤلاء الآيات عطف الضروس على ولده)
(2).
(أقول): قوله (عليه السلام): (يوم خلق السماوات والأرض).
يعني: سبق في علم الله تعالى من يوم خلق السماوات والأرض، أنّ فلاناً، وفلاناً... الخ يعادون أهل البيت، كما عادى فرعون وأتباعه، موسى وأشياعه.
و (الضروس) هي الناقة السيئة الخُلُق التي تعضُّ ولدها، فيقال: (الحرب الضروس) أي الحرب المهلكة للنّاس.
وقوله (عليه السلام): (ليعطفُن عليكم هذه الآيات عطف الضروس على ولدها) يعني: لتشملنكم ولتحوينكم هذه الآيات كما تشمل وتسيطر الضروس على ولدها (كناية) عن قطعية وقوع الاستضعاف، ثم الانتصار بعده.
وروى (محمد بن عيسى الترمذي) في صحيحه، بسنده عن سعد بن أبي وقاص، أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لعلي:
(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي) (3).
(أقول): فوصي، ووارث العلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو علي بن أبي طالب، كما أنّ وصي موسى بن عمران كان أخاه هارون.
وأخرج العلاّمة السيد هاشم البحراني في تفسيره عن إمام العامة أبي جعفر محمد بن جرير (بسنده المذكور) عن زاذان عن سلمان، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) (وسرد حديثاً طويلاً إلى أنْ قال سلمان):
قال (صلى الله عليه وآله وسلّم):
(إي والله، أرسل محمداً بالحق مني (يعني: في زمان وعهد مني) ومن علي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة، وكل من هو منا ومعنا وفينا، إي والله، يا سلمان، ليحضرن إبليس وجنوده وكل محض الإيمان محضاً، ومحض الكفر محضاً، حتى يؤخذ بالقصاص والأوتاد والأثوار، ولا يظلم ربُّك أحداً، وتحقق تأويل هذه الآية:
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمّة وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ).
قال سلمان: فقمت من بين يدي رسول الله، وما يبالي سلمان لقي الموت، أو الموت لقيه
(4).
(أقول): فعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، ممّن نزلت فيه هاتان الآيتان تأويلاً.
ونقل جار الله الزمخشري ـ أبو القاسم محمود بن عمر ـ المعتزلي في (ربيع الأبرار) عن علي (عليه السلام) أنّه قال: (لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها، عطف الضروس على ولدها).
ثم تلا عقيب ذلك:
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمّة وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)
(5).
(سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)
القصص/ 35
روى الحافظ الحاكم الحسكاني (الحنفي) قال: (أخبرنا) الحاكم أبو عبد الله الحافظ (بإسناده المذكور) عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال:
بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مصدقاً إلى قوم، فغدوا على المصدق فقتلوه، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فبعث علياً فقتل المقاتلة وسبى الذّرية.
فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فسرّه.
فلمّا بلغ علي أدنى المدينة، تلقاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فاعتنقه، وقبّل بين عينيه، وقال:
بأبي أنت وأمي، من شدّ الله عضدي به، كما شدّ عضد موسى بهارون (6).
(أقول): لا مانع من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) (بأبي أنت وأمي)؛ لثبوت أفضلية علي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من جميع الخلق، فهو إذاً أفضل من والديّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلا مانع من تغديتهما به.
(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)
القصص/ 61.
أخرج محمد بن جرير الطبري في تفسيره الكبير، عن مجاهد في هذه الآية الكريمة قال:
(نزلت في حمزة، وعلي بن أبي طالب، وأبي جهل) (7).
* * * * *
ورواه أيضاً الواحدي في أسباب النزول (8).
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ)
القصص/ 68 ـ 69
روى العلاّمة البحراني (قُدِّس سرُّه) عن الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي وهو من مشايخ أهل السنة ـ في تفسيره المستخرج من التفاسير الاثنى عشر، في تفسير قوله تعالى:
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ).
يرفعه إلى أنس بن مالك، قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن هذه الآية فقال:
إنّ الله خلق (آدم) من الطين كيف يشاء ويختار، وإنّ الله تعالى اختارني وأهل بيتي على جميع الخلق، فانتجبنا، فجعلني الرسول، وجعل علي بن أبي طالب الوصي.
ثم قال (تعالى):
(ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ).
يعني: ما جعلتُ للعباد أنْ يختاروا، ولكن أختار من أشاء، فأنا وأهل بيتي صفوته وخيرته من خلقه.
ثم قال تعالى: (سبحان الله) يعني: تنزُهاً لله (عمّا يشركون) به كفار مكة.
ثم قال (تعالى):
(وربّك) يعني: يا محمد، (يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) من بغض المنافقين لك، ولأهل بيتك
(وَما يُعْلِنُونَ) (في الظاهر) من الحب لك ولأهل بيتك (9).
وأخرج عالم (الحنفية) المتقي الهندي في (كنز العمال) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال لفاطمة:
(أمّا علمت أنّ الله عزّ وجلّ اِطلع إلى أهل الأرض، فاختار منهم أباك فبعثه نبياً، ثم اِطلع الثانية فاختار بعلك) (الحديث)
(10).
(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
القصص/ 83
روى الحافظ سليمان (القندوزي) الحنفي، عن الفقيه (الشافعي) أبي الحسن بن المغازلي في (مناقبه) روى بإسناده عن (زاذان) قال:
رأيت علياً يمسك الشسوع بيده، ثم يمرّ في الأسواق، فيناول الرجل الشسع ويرشد الضال، ويعين الحمال على الحمولة، ويقرأ هذه الآية:
(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
ثم يقول (رضي الله عنه): هذه الآية نزلت في الولاة، وذوي القدرة (11).
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
القصص/ 48.
روى الحافظ الحاكم الحسكاني (الحنفي) قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن أحمد (بإسناده المذكور) عن أبي جعفر (محمد بن علي الباقر) يقول:
دخل أبو عبد الله الجدلي على أمير المؤمنين فقال له (أمير المؤمنين):
يا أبا عبد الله، ألا أخبرك بقول الله تعالى:
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
قال: بلى جُعلتُ فداك.
قال: الحسنة حبُّنا أهل البيت، والسيئة بغضنا.
ثم قرأ الآية:
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)
(12).
(أقول): قال العلاّمة البحراني في (غاية المرام) ـ في تفسير (فله خير منها) ـ.
(قيل): هو أنّ الله تعالى يقبل إيمانه وحسناته وقبول الله سبحانه خير من عمل العبد.
(وقيل): فله خير منها أي: رضوان الله تعالى، قال الله تعالى: (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)
(13)... الخ.
(وفيها اثنتا عشرة آية)
(ألم * أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)
العنكبوت/ 1 ـ 3
روى العلاّمة الهندي عبد الله بسمل عن ابن مردويه بسند عن علي ـ كرّم الله وجهه ـ في قوله تعالى:
(ألم * أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ).
قال قلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة؟ قال: يا علي، بك، وأنت تخاصم فاعد للخصومة (14).
ورواه بهذا المعنى، العلاّمة الشافعي، ابن حجر الهيثمي وقال: أخرجه البخاري في (صحيحه) في باب (قتل أبي جهل)
(15).
* * * * *
وروى العلاّمة البحراني، عن ابن شهر آشوب، عن أبي طالب الهروي، بإسناده عن علقمة (16) وأبي أيوب:
أنّه لمّا نزل:
(ألم * أحسب الناس) الآيات.
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعمّار:
إنّه سيكون من بعدي هناة، حتى يختلف السيف فيما بينهم، وحتى يقتل بعضهم بعضاً، وحتى يتبرأ بعضهم من بعض. فإذا رأيت فعليك بهذا الأصلع عن يميني، علي بن أبي طالب، فإنْ سلك الناس كلُّهم وادياً، فاسلك وادي علي بن أبي طالب وخل عن النّاس.
يا عمّار، إنّ علياً لا يردّك عن هدىً، ولا يردّك إلى ردىً.
يا عمّار، طاعة علي طاعتي، وطاعتي طاعة الله. (17)
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)
العنكبوت/ 4
روى الحافظ الحسكاني (الحنفي) قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد (بإسناده المذكور) عن ابن عباس في قوله تعالى:
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ).
(قال): نزلت في عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وهم الذين بارزوا علياً، وحمزة، وعبيدة
(18).
* * * * *
وروى السّيوطي في تفسيره عن ابن مردويه، عن ابن عباس قال: لمّا برز علي وحمزة وعبيدة إلى عتبة، وابنه الوليد، وشيبة قال علي لهم:
أدعوكم إلى الله وإلى رسوله.
فقال عتبة: هلُم للمبارزة (19).
* * * * *
وروى السّيوطي أيضاً عن أبي حاتم، عن أبي العالية ـ في حديث ـ قال:
فبزر عتب بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فنادوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه فقالوا: اِبعث إلينا أكفاءنا نقاتلهم.
فوثب غُلمة من الأنصار من بني الخزرج، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) اجلسوا.
قوموا يا بني هاشم.
فقام حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث فبرزوا لهم.
فقال عتبة: تكلموا نعرفكم، إن تكونوا أكفاءنا، قاتلناكم.
قال حمزة بن عبد المطلب: أنا أسد الله، وأسد رسوله.
فقال عتبه: كفْءٌ كريم.
فقال علي: أنا علي بن أبي طالب.
فقال: كفْءٌ كريم.
فقال عبيدة: أنا عبيدة بين الحارث.
فقال عتبة: كفْءٌ كريم.
فأخذ حمزة شيبة بن ربيعة، وأخذ علي بن أبي طالب عتبة بن ربيعة، وأخذ عبيدة الوليد.
فأمّا حمزة فأجاز على شيبة، وأمّا علي فاختلفا ضربتين، فأقام فأجاز على عتبة، وأمّا عبيدة فأُصيبت رجله.
قال (أبو العالية): فرجع هؤلاء، وقتل هؤلاء.
فنادى أبو جهل وأصحابه: لنا العزّى ولا عزّى لكم.
فنادى منادي النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار (20).
(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)
العنكبوت/ 5 ـ 7
روى الحافظ الحاكم الحسكاني (الحنفي) قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد (بإسناده المذكور) عن أبي صالح، عن ابن عباس (في قوله تعالى):
(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ).
(قال): نزلت في علي، وصاحبيه: حمزة، وعبيدة (21).
* * * * *
وروى هو أيضاً عن فارس (بإسناده المذكور) عن ابن عباس في قوله (تعالى):
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)
(قال): يعني علياً، وعبيدة، وحمزة.
(لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ).
يعني: ذنوبهم.
(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) من الثواب في الجنة.
(أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) من الثواب في الدنيا.
(ثم قال ابن عباس): فهذه الثلاث آيات نزلت في علي وصاحبيه (حمزة وعبيدة) ثم صارت للناس عامةً من كان على هذه الصفة
(22).
(أقول): لا تنافي بين هذا التفسير (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي: ذنوبهم، وبين عصمة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لوجهين:
(الأول): إنّ علماء البلاغة يقولون في تقابل الجمعين لا يلزم ـ بلاغياً ولا عرفياً ـ أنْ يتصف كل فرد من أفراد هذا الجمع بالحكم، بل يكفي الغالب، فلو قيل: (باع القوم دوابهم) لا يلزم أن يكون لكل فرد من القوم دابة، حتى إذا لم تكن لواحد من القوم دابة، تكون القضية كاذبة، فمعنى ذلك: إنّ من كانت عنده دابة من القوم باعها.
والتفسير هنا هكذا: أي: من كان له فيهم ذنب يكفّره الله عنه، وليس معناه أنَّ ثلاثتهم مذنبون، بل يكفي تكفير ذنوب حمزة وعبيدة، وعدم وجود الذنب لأمير المؤمنين، حتى يحتاج إلى التكفير.
(الثاني): ما يجاب به عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قوله
تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (الفتح/ 2) يجاب بمثله هنا عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو أن المراد بالذنب، الذنب العرفي عند الناس، وهو الأحقاد، والعداوة، والبغضاء الكامنة في قلوبهم ضد رسول الله وضد علي (صلى الله عليهما وعلى آلهما).
إذ كما أنّ في انتصار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بفتح مكة ظهرت له الغلبة والشخصية في أعين الناس فلم يقدر أحد ـ والحال هذه ـ أنْ يظهر عداءه ويبرز ما في قلبه من الانتقاد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كذلك انتصار علي (عليه السلام) في قتل (عتبة) صار لعلي كرامة عند الناس وشخصية، محتا عنه ما جاشت به قلوب أعدائه من البغض والحقد.
وهذا المعنى قابل الجريان في (حمزة وعبيدة) أيضاً.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)
العنكبوت/ 9
روى الحافظ الحاكم الحسكاني (الحنفي) قال: حدثني علي بن موسى بن إسحاق (بإسناده المذكور) عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
ما في القرآن آية: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلاّ وعليٌّ أميرها وشريفها، وما من أصحاب محمد رجل، إلاّ وقد عاتبه الله، وما ذكر علياً إلاّ بخير.
ثم قال عكرمة: إنّي لأعلم أنّ لعلي منقبةً لو حدثت بها، لنفدت أقطار السماوات والأرض
(23).
(أقول): أي: نفدت أقطار السماوات والأرض. قبل أنْ تنفد منقبة علي بن أبي طالب (عليه السلام).
(كما) مرّ ذكر هذا الحديث عدة مرات تحت مثل هذه الآية.
(فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ)
العنكبوت/ 15
روى السّيوطي في تفسيره (الدرّ المنثور) عند تفسير قوله تعالى:
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ
رَغَد).
الآية من سورة البقرة.
قال: وأخرج ابن أبي شيبة عن علي (كرّم الله وجهه) أنه قال:
(إنّما مثلنا في هذه الأمة، كسفينة نوح) (24).
وروى العلاّمة البحراني، عن علي بن الصباغ (المالكي) في كتابه (الفصول المهمة) عن رافع مولى أبي ذر قال:
صعد أبو ذر على عتبة باب الكعبة، وأخذ بحلقة الباب، وأسند ظهره إليه وقال:
(يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني، فأنا أبو ذر سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول:
(مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلف عنها قح في النّار) (25).
* * * * *
وروى هو عن إبراهيم بن محمد الحمويني (الشافعي) ـ قال: أخبرني الجٌلّة من أهل الحلة (بإسنادهم التي ذكرنا) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعلي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) ـ في حديث ـ:
(يا علي، مثلك ومثل الأئمّة من ولدك بعدي، مثل سفينة نوح، من ركب فيها، نجى، ومن تخلّف عنها، غرق.
ومثلكم مثل النجوم كلّما غاب نجم، طلع نجم إلى يوم القيامة) (26).
(أقول): الروايات بهذه المعاني تعدُّ بالعشرات، بل هي فوق المئة، وبذلك تكون فوق الدرجات العالية من التواتر.
ومعنى هذه الروايات: أنّ الناجي من هذه الأمة، هو المتمسك بعلي وأهل بيته، كما أنّ الناجي في عهد نوح (عليه السلام) كان الذي يركب السفينة، والهالك من هذه الأمة هو التارك لعلي ولأهل بيته، كما أنّ التارك لسفينة نوح كان يهلك.
* * * * *
وقد تواتر نقل هذا الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأسانيد عديدة، وألفاظ مختلفة بالزيادة والنقصان في بعض الجمل، كلُّها متفقة بالمعنى.
وقد قال حافظ الشافعية ابن حجر الهيثمي في صواعقه:
جاء من طرق كثيرة يقوّي بعضها بعضاً:
(مثل أهل بيتي) (إنّ مثل أهل بيتي) (ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه... الحديث)
(27).
وممّن أخرجه: الحافظ أبو الحسن بن المغازلي في مناقبه (28).
والحافظ سليمان القندوزي في ينابيعه (29).
والخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن أنس بن مالك (30).
والعلاّمة ابن كثير الدمشقي في تفسيره بسنده عن أبي ذر (31).
والحافظ السّيوطي في خصائصه (32).
وأخرجه الحاكم في مستدركه بسنده عن أبي إسحاق (33).
والحافظ أبو نعيم في حليته (34).
والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (35).
والحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال (36).
والحافظ السّيوطي (الشافعي) في كتابه المخطوط (الأنافة في رتبة الخلافة) (37).
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
العنكبوت/ 23
روى العلاّمة البحراني (قده) عن موفّق بن أحمد المكي الخوارزمي (الحنفي) ـ أخطب الخطباء ـ (بإسناده المذكور) عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم):
(من أحب علياً، قَبِلَ الله صلاته وصيامه، واستجاب دعاءه، ألا ومن أحبّ علياً، أعطاه الله بكل عرق في بدنه مدينة في الجنة، ألا ومن أحبَّ آل محمد، أمن من الحساب والصراط والميزان، ألا ومن مات على حبِّ آل محمد، فأنا كفيله بالجنة مع الأنبياء.
ألا ومن أبغض آل محمد، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه، آيسٌ من رحمة الله).
ثم أعقب ذلك العلاّمة البحراني قائلاً:
قال مؤلف هذا الكتاب: أمّا موفّق بن أحمد فهو عامّي المذهب، ومالك بن أنس هو الذي تنسب إليه الفرقة المالكية إحدى الفرق الأربع من العامة، ونافع بن الأزرق هو مولى عمر بن الخطاب وهو من الخوارج
(38) وابن عمر هو عبد الله، وهو من رؤوس النواصب، الذين لم يبايعوا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وهذه الرواية من عجيب رواياتهم لأنهم أعداؤه
(39).
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)
العنكبوت/ 58
روى العلاّمة البحراني عن (الجبري) في تفسيره (مرسلاً) عن ابن عباس أنّه قال:
(قوله تعالى): (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).
(نزلت) في علي وشيعته (40).
(أقول): الله تعالى أمر بالإيمان بذاته المقدسة، وبالإيمان بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبالإيمان بعلي بن أبي طالب (عليه السلام).
(والشيعة) حيث آمنوا بالأمور الثلاثة التي أمر بها الله تعالى كانوا هم المؤمنين حقاً.
(وعملهم) حيث كان متخذاً ممّن أمر الله بالأخذ عنه ـ باب مدينة علم النبي، وباب دار الحكمة، ومن يدور معه الحق كيفما دار، ومن هو مع القرآن والقرآن معه، أعني علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ كان عملاً صالحاً، يصلح لتقديمه إلى الله تعالى.
دون الذين لم يؤمنوا بالأمور الثلاثة كما أمر الله، ولم يتخذوا منهاج ـ أعمالهم ممّن أمر الله بالأخذ عنه ـ علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ فإنّ إيمانهم ليس الإيمان الذي به أمر الله، وعملهم ليس العمل الذي إليه دعا الله (ولذا) كانوا الشيعة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)
العنكبوت/ 69
روى الحافظ الحسكاني (الحنفي) عن تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي (بإسناده المذكور) عن إبّان بن تغلب، عن أبي جعفر (محمد بن علي الباقر) في قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
قال: نزلت فينا أهل البيت (41).
(أقول): تكررت الأحاديث الشريفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في أنّ
أهل البيت هم: (علي، فاطمة، والحسن، والحسين) وقد ذكرنا بعضها في تفسير سورة
الأحزاب آية (23) قوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير)، وفي موارد أخرى في هذا الكتاب سبق بعضها، ويأتي بعضها الآخر.
(وفيها ثلاث آيات)
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ)
الروم/ 15
أخرج الحافظ الحسكاني (الحنفي) قال: حدثني علي بن موسى بن إسحاق (بسنده المذكور) عن ابن عباس قال:
ما في القرآن آية: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلاّ وعليٌّ أميرها وشريفها
(42).
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
الروم/ 38
أخرج علاّمة الأحناف، الموفّق الخوارزمي، في مناقبه قال: أخبرني الشيخ الإمام، شهاب الدين أفضل الحفّاظ، أبو نجيب، سعد بن عبد الله بن الحسن الهمداني، المعروف بالمروزي، فيما كتب إليّ من همدان (بسنده المذكور) عن أبي الطفيل
(43) قال في حديث المناشدة يوم الشورى قال علي بن أبي طالب: أنشدكم الله، أيُّها الخمسة... إلى أنْ قال:
(أ منكم أحد تمّم الله نوره من السماء حين قال:
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) غيري؟
قالوا: اللّهم لا (44).
* * * * *
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا القاسم (بإسناده المذكور) عن ابن عباس:
أنّ نجدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى؟
فكتب (ابن عباس) إليه كتاباً:
(نزعم أنْ نحن هم، فأبى ذلك علينا قومنا) (45).
* * * * *
وروى الحاكم الحسكاني (الحنفي) قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي (بإسناده المذكور) عن أحمد بن عمار، قال:
سُئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): من قرابتك؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلّم): علي، وفاطمة، وولدهما (علي وفاطمة وولدهما، علي وفاطمة وولدهما) ثلاث مرات يقولها
(46).
* * * * *
وروى الحسكاني أيضاً، قال: أخبرنا عقيل بن الحسين (بإسناده المذكور) عن ابن عباس ـ في الحديث ـ في تفسير هذه الآية قال:
(والمسكين): الطوّاف الذي يسألك، يقول: أطعمه.
(وابن السبيل) وهو الضيف حث على ضيافته ثلاثة أيام.
(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) يعني: وأنك يا محمد، إذا فعلت هذا، فافعله لوجه الله.
(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يعني: أنت، ومن فعل هذا من الناجين في
الآخرة من النار، الفائزين بالجنة. (47)
* * * * *
(أقول): قد تكرر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أحاديث كثيرة، كلُّها بلسان واحد تقول:
(المفلحون هم علي وشيعته)
(الفائزون هم علي وشيعته).
وقد سبق، وسيأتي بعض ذلك في تضاعيف الكتاب.
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ...)
الروم/ 45
روى العلاّمة البحراني عن ابن شهر آشوب ـ من طريق المخالفين ـ بإسناده المذكور عن الشعبي ـ في حديث ـ قال:
إنّ رجلاً أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ... إذ أقبل عليٌّ، فقال الرجل: من هذا يا رسول الله؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلّم): هذا من الذين أنزل الله فيهم.
(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (48).